مائة عام على ضياع الجغبوب… كيف فقدت مصر واحة كاملة في عهد الملك فؤاد؟

مائة عام على ضياع الجغبوب… كيف فقدت مصر واحة كاملة في عهد الملك فؤاد؟

بقلم: عمرو صابح

على مدار قرن كامل، ظلّ ملف واحة الجغبوب شاهدًا صادمًا على حقيقة “الاستقلال الشكلي” الذي مُنح لمصر سنة 1922. فقد ظلت بريطانيا — رغم إعلان مصر مملكة مستقلة — تمسك بكل الخيوط الفعلية للسياسة الخارجية والحدود والدفاع، وتُدير هذه الملفات بمعزل تام عن الإرادة المصرية. وفي واحدة من أكثر اللحظات فجاجة في تاريخ السيطرة البريطانية على مصر، قامت لندن في ديسمبر سنة 1925 بعقد اتفاق حدودي مع إيطاليا الفاشية، رتّب انتقال الجغبوب إلى ليبيا، من وراء ظهر مصر، ودون قدرة القاهرة — قصرًا وحكومة وبرلمانًا — على الاعتراض أو حتى الحضور.

إنها قصة واحة اقتُلعت من الجسد المصري لا بفعل حرب، ولا باتفاق ثنائي نِدّي، بل بقرار استعماري فوقي.

قصة دولة كانت موجودة على الخريطة… وغائبة عن قرارها وحدودها وسيادتها.

أولًا: الجغبوب — واحة صغيرة بمكانة جيوسياسية وروحية كبرى

رغم أن الجغبوب ليست من الواحات الضخمة، فإن قيمتها التاريخية والاستراتيجية تفوق بكثير حجمها الجغرافي.

1. مركز السنوسية الأكبر

كانت الجغبوب العاصمة الروحية للطريقة السنوسية، التي مثّلت القوة الدينية والسياسية الأعمق أثرًا في برقة منذ منتصف القرن التاسع عشر.

فيها تأسست الزاوية الكبرى، ومنها انتشر النفوذ السنوسي في الصحراء الليبية والمصرية والتشاد والنيجر.

2. عمود المقاومة الليبية

في مواجهة الغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911، تحولت الجغبوب إلى عقل المقاومة السنوسية، مركزًا لتجميع المقاتلين، وتنظيم خطوط التموين، وصنع القرار الديني والسياسي.

كان من المستحيل — بالنسبة لإيطاليا — إخضاع برقة دون إسكات هذا المركز.

3. الامتداد الطبيعي للحدود المصرية

من الناحية الجغرافية والإدارية، كانت الجغبوب جزءًا من الامتداد الطبيعي لواحات غرب مصر.

ارتبطت إداريًا بالقاهرة في القرن التاسع عشر، وكانت طرق التجارة والحركة بين سيوة والسلوم والواحة مفتوحة بلا حواجز.

4. قيمة استراتيجية في فضاء صحراوي حساس

الجغبوب كانت تمثل:

نقطة مراقبة على طرق الصحراء

مركزًا لوجستيًا بالغ الأهمية

حلقة وصل بين مصر وبرقة

مساحة تمنح من يسيطر عليها أفضلية في الحركة العسكرية بالصحراء الغربية

لهذه الأسباب، أصبحت الواحة — منذ مطلع القرن العشرين — هدفًا صريحًا للمطامع الإيطالية ومحورًا للصراع مع بريطانيا، بينما كانت مصر مجرّدة من أي قدرة حقيقية على حماية حدودها.

ثانيًا: من الغزو الإيطالي لليبيا إلى التفاهمات السرّية (1911–1922)

حين غزت إيطاليا ليبيا سنة 1911، سرعان ما أدركت أن السيطرة على المدن الساحلية لا تكفي، وأن بقاء الجغبوب خارج نفوذها يُبقي السنوسية قادرة على إعادة تجميع قواتها.

ومنذ الأيام الأولى للاحتلال الإيطالي، ظهرت مطالبات صريحة بضرورة “إخضاع الجغبوب”.

أثناء الحرب العالمية الأولى

خلال الحرب (1914–1918)، ومع تصاعد نشاط السنوسية ضد بريطانيا في مصر وليبيا، بدأت لندن وروما في تبادل الرسائل والخرائط، وظهرت لأول مرة مشاريع لإعادة ترسيم الحدود.

لكن القاعدة كانت واضحة:

إيطاليا تتفاوض، بريطانيا تُقرّر، ومصر غائبة بالكامل.

لماذا كانت مصر غائبة؟

لأن:

الاحتلال البريطاني كان يسيطر على مصر عسكريًا

مصر لم تكن تملك سلطة عقد الاتفاقات الدولية

بريطانيا اعتبرت ملف “الحدود” موضوعًا “إمبراطوريًا”

إيطاليا رفضت التعامل مع مصر مباشرة باعتبارها “كيانًا غير مستقل”

وهكذا، بدأت الخطوط الأولى لاتفاق 1925 تتشكل.

ثالثًا: استقلال 1922… استقلال منزوع السيادة

صدر تصريح 28 فبراير 1922 مانحًا مصر لقب “الدولة المستقلة” عن بريطانيا. ولكن هذا الاستقلال جاء محاطًا بأربعة تحفظات خطيرة، جعلت السيادة المصرية نظرية لا فعلية.

1. التحفظ العسكري

بريطانيا تحتفظ بحق التدخل العسكري في مصر متى شاءت.

بمعنى: مصر لا تملك قرار الحرب ولا الدفاع عن حدودها.

2. حماية الأقليات والمصالح الأجنبية

باب خلفي يسمح لبريطانيا بالاعتراض على القوانين والتدخل في التشريعات.

3. التحفظ على الأمن الداخلي

سلطة مواربة لإسقاط الحكومات وتعطيل الدستور إذا تعارض مع المصالح البريطانية.

4. التحفظ على الشؤون الخارجية وعلاقات مصر الدبلوماسية

هذا التحفظ كان الأخطر لأنه وضع:

الاتفاقات الدولية

ترسيم الحدود

العلاقات الإقليمية

كلها في يد لندن.

وبهذا دخلت مصر “مرحلة الاستقلال”، وهي مجرّدة من أهم مقوّمات الاستقلال الحقيقي: استقلال القرار الداخلي والخارجي.

وهذا بالضبط ما سهّل انتزاع واحة الجغبوب.

رابعًا: اتفاق 6 ديسمبر 1925 — عندما تَفاوضت بريطانيا وإيطاليا على أرض مصرية كأنها “ملكية مستعمرة”

في 6 ديسمبر 1925، وقّعت بريطانيا وإيطاليا اتفاقًا كاملاً لترسيم الحدود بين مصر وبرقة الإيطالية.

ما الذي يجعل هذا الاتفاق صادمًا؟

1. غياب مصر التام عن المفاوضات

لا وفد، لا اعتراض، لا رأي، لا مشاركة.

2. اعتبار بريطانيا القضية شأنًا بريطانيًا-إيطاليًا

وكأن مصر محافظة من محافظات الإمبراطورية البريطانية!

3. رسم الحدود بخطوط هندسية مصطنعة

خطوط مستقيمة في الصحراء، لا علاقة لها بالقبائل ولا بالتاريخ ولا بالمجال الحيوي المصري.

4. منح واحة الجغبوب لإيطاليا بالكامل

دون أي سند قانوني أو حتى مبدأ تفاوضي.

خامسًا: الرفض المصري… ثم الخضوع الإجباري تحت التهديد

بمجرد إعلان تفاصيل الاتفاق، سارعت الحكومة المصرية إلى الاعتراض الرسمي.

لكن ماذا كان بيدها؟

المعادلة كانت واضحة:

مصر تقول “لا”.

بريطانيا ترد: “إما نعم… أو لا حكومة لكم.”

وفي ظل قوة الاحتلال وتواطؤ القصر الملكي وقصور بنية الدولة المصرية آنذاك، سقط الرفض تحت ثقل الإجبار.

هكذا جرى التصديق:

رفض رسمي

تهديد بريطاني

انهيار موقف الحكومة المصرية

تصديق قسري

نشر لاحق في الجريدة الرسمية

انتهاء الأزمة على ورق… وبدء جرح تاريخي لا يندمل

سادسًا: الانفجار الشعبي — حين دافع الشعب عن ما لم تستطع الدولة حمايته

مثل أي لحظة تتعرض فيها الأرض المصرية للانتقاص، تحركت القوى الوطنية فورًا.

1. الصحافة

الجرائد الوطنية — خصوصًا الوفدية — أعلنت أن ما حدث “تجريد لمصر من سيادتها”، واعتبرت الاتفاق “اغتصابًا سياسيًا”.

2. البرلمان

نواب الأمة وقفوا ضد الاتفاق بحدة، ولُقّب ما حدث بـ”الفضيحة الحدودية”.

3. الطلاب

شهدت القاهرة والإسكندرية تظاهرات واسعة، وأضرب طلاب الجامعة، واحتجت المدارس العليا.

4. القصر

حاول التقليل من قيمة الواحة لتخفيف الغضب الشعبي.

لكن الحقيقة كانت واضحة:

لم يكن أحد في مصر — مهما علا موقعه — قادرًا على الوقوف أمام سطوة بريطانيا.

سابعًا: لماذا أصرت إيطاليا على ضم الجغبوب؟

لم يكن ضم الواحة قرارًا عشوائيًا، بل خطوة محسوبة بدقة داخل المشروع الإمبراطوري الإيطالي.

1. القضاء على السنوسية

السيطرة على الجغبوب = ضرب قلب السنوسية = إضعاف المقاومة الليبية.

2. خنق التواصل مع مصر

كانت واحة الجغبوب نقطة اتصال أساسية بين مصر وبرقة.

ضمها يعني قطع شريان الإمداد القادم من سيوة والواحات المصرية.

3. تعزيز النفوذ الإيطالي في شمال أفريقيا

روما كانت تريد “حدودًا طويلة وثابتة” مع مصر لتأكيد سيادتها على ليبيا.

4. السياج الحدودي الإيطالي

بعد ضم الواحة، أقامت إيطاليا سياجًا حديديًا بطول مئات الكيلومترات — لعزل برقة عن مصر تمامًا.

كانت الجغبوب حجر الزاوية في هذا المشروع.

ثامنًا: الآثار طويلة المدى — حدود مرسومة بالمسطرة لا بالتاريخ

كانت خسارة الجغبوب أكثر من مجرد تنازل عن واحة صغيرة.

كانت إعادة تشكيل كاملة للحدود المصرية-الليبية.

أبرز النتائج:

1. فقدت مصر امتدادها الغربي التقليدي

لم تعد الحدود تعكس الجغرافيا الحقيقية.

2. ترسيم حدود مصطنعة

خطوط هندسية مستقيمة قُطعت بها أوصال الصحارى.

3. تراجع النفوذ المصري في الغرب الليبي

4. انقطاع الصلة مع السنوسية

التي كانت تاريخيًا حليفًا طبيعيًا لمصر في الغرب.

5. تحوّل القضية إلى دليل دائم على أن استقلال 1922 كان استقلالًا ورقيًا

خاتمة

لم يكن فقدان واحة الجغبوب “تنازلًا مصريًا”، بل كان انتزاعًا استعماريًا نفذته بريطانيا في وقت كانت فيه مصر مقيّدة بقيود أربعة، محرومة من أدوات السيادة، ومنزوعة القدرة على الدفاع عن حدودها.

قصة الجغبوب ليست مجرد صفحة من صفحات التاريخ…

إنها درس مرير في معنى الدولة حين تُسلب إرادتها، ومعنى الاستقلال حين يظل بلا قوة تحميه.

إن الجغرافيا كانت مصرية…

لكن القرار لم يكن يومها في يد مصر.

المراجع

1. محسن محمد، سرقة واحة مصرية.

2. محمد الطيب الأشهب، برقة العربية.. أمس واليوم.

3. صلاح الدين السويحلي، جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي من خلال الوثائق الإنجليزية.

4. محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة.

Scroll to Top