شعراوي جمعة من حارس يوليو إلى سجين مايو

شعراوي جمعة من حارس يوليو إلى سجين مايو

بقلم: عمرو صابح

لم يكن شعراوي جمعة مجرد اسم في سجلات دولة يوليو، بل أحد أبرز الوجوه التي جسّدت طبيعتها بكل تناقضاتها.
ضابط شاب خرج من صفوف الجيش ليصبح عين الثورة التي ترصد وتتابع، ثم تحوّل إلى أحد مهندسي بنيانها السياسي والأمني في مرحلة كانت الدولة الجديدة تُقام على أنقاض ماضٍ يتهاوى، وتخوض في الوقت نفسه معارك الداخل والخارج.
كان شعراوي جمعة نموذجًا لرجل أدرك أن الأمن والسياسة ليسا مجالين منفصلين، بل خطّان يتقاطعان عند غاية واحدة: حماية الدولة وضمان استمرار مشروعها.

البدايات والنشأة

وُلد شعراوي جمعة في 25 يوليو 1920 بالقاهرة. حصل على شهادة البكالوريا الثانوية العامة بتفوق، وكان الأول على القسم الأدبي بمدرسته الخديوية الثانوية.
التحق بالكلية الحربية في عام 1939 وتخرج في عام 1942 والتحق بسلاح المشاة.

في عام 1947 انتدب للعمل مدرسًا بالكلية الحربية، وحصل على منحة دراسية لدراسة علم التكتيك في بريطانيا، ونال ماجستير العلوم العسكرية من كلية أركان الحرب في عام 1952.

شارك في حرب فلسطين عام 1948، والتي كانت محطة محورية في حياته؛ إذ توطدت علاقته مع الضباط الأحرار.

انضم لتنظيم الضباط الأحرار في عام 1950، عندما رشحه عضو التنظيم الضابط حمدي عاشور لقائد التنظيم جمال عبد الناصر، الذي كان يعرفه من كونه أحد تلامذته بكلية أركان الحرب.

في 24 يوليو 1952 كلفه عبد الناصر بقيادة القوات المسؤولة عن تأمين القاهرة.
في سبتمبر 1952 تم تعيينه أركان حرب للواء الرابع في العريش، وبعد عام تم نقله إلى إدارة تنظيم وتسليح الجيش برئاسة الأركان للقوات المسلحة.
في أغسطس 1957 انتقل للعمل بجهاز المخابرات العامة كمسؤول عن مكافحة التجسس والعمل الخارجي.

المناصب والمسار السياسي

1. نائب مدير جهاز المخابرات العامة (أغسطس 1957 – ديسمبر 1961)

بعد الثورة، عُيّن شعراوي نائبًا لمدير جهاز المخابرات العامة، حيث أشرف على فرع الخدمة السرية، وعمل مع عبد المحسن فائق لمتابعة الأنشطة المعادية للثورة ومراقبة المعارضة السياسية.
هذه الفترة عززت مكانته كأحد الأعمدة الأمنية الأساسية في النظام الناصري.

2. محافظ السويس (2 ديسمبر 1961 – 14 مايو 1964)

قاد شعراوي جمعة نهضة إدارية وتنموية في السويس، فطوّر مرافقها وميناءها، ووسّع مشروعات الإسكان والخدمات العامة، كما أولى الثقافة اهتمامًا خاصًا باعتبارها جزءًا من عملية الوعي الوطني. فأنشأ معهد الدراسات الاشتراكية ليكون مركزًا لتثقيف الكوادر الشابة على مبادئ الفكر القومي والاشتراكي، وتزويدهم بالمعرفة السياسية والاجتماعية اللازمة لخدمة المجتمع الجديد الذي كانت مصر تسعى لبنائه آنذاك. كما حرص على دعم قصر ثقافة السويس وتوفير الإمكانات له ليصبح منارة فكرية وفنية لأبناء المحافظة، يحتضن الندوات والعروض المسرحية والأنشطة الفنية والموسيقية المختلفة.

3. وزير في مجلس الرئاسة المصري – العراقي (مايو 1964)

بعد تركه لمحافظة السويس، تم تعيين شعراوي وزيرًا في مجلس الرئاسة المصري–العراقي.

4. وزير الدولة بمجلس الوزراء وأمين التنظيم بالاتحاد الاشتراكي وأمين التنظيم الطليعي (1965)

في عام 1965 تم تعيينه وزيرًا للدولة بمجلس الوزراء وأمينًا للتنظيم بالاتحاد الاشتراكي، وأمينًا للتنظيم الطليعي (حزب عبد الناصر السري).
وكان مسؤولًا عن تنظيم الجهاز الحزبي وضمان تنفيذ سياسات الدولة وربط التنظيم السياسي بالجهاز الأمني لتثبيت هيمنة النظام.

5. وزير الداخلية (10 سبتمبر 1966 – 13 مايو 1971)

أصبح شعراوي جمعة وزير الداخلية، حيث قاد الوزارة خلال فترة مليئة بالتحديات الداخلية والخارجية، من بينها توترات ما قبل حرب 1967 وتداعيات النكسة.
أنشأ شعراوي جمعة قوات الأمن المركزي في عام 1967، وأسس معهد أمناء الشرطة في عام 1968، وصاغ شعار «الشرطة في خدمة الشعب»، وعمل على تطوير الجهاز الأمني ليكون أداة فعالة في تعزيز استقرار المجتمع وسيادة الأمان.

6. نائب رئيس الوزراء ( أكتوبر 1970- مايو 1971)

مع تولي الرئيس أنور السادات الحكم بعد وفاة عبد الناصر، أُضيف إلى مهام شعراوي منصب نائب رئيس الوزراء، فزاد تأثيره في اتخاذ القرارات الأمنية والسياسية الكبرى.

الولاء للنظام والتحديات

تميز شعراوي جمعة بولاء مطلق للنظام الناصري، وقد ظهر ذلك في تعزيز إجراءات الأمن الداخلي، ومتابعة المعارضة.
كما ساهم في حماية الثورة والدولة من خلال إدارة التحديات الداخلية والخارجية بكفاءة، بما في ذلك التعامل مع الضغوط السياسية بعد النكسة وتهيئة الأجهزة الأمنية لمواجهة أي تهديدات.
واستخدم أجهزة الدولة لضمان أن أي نشاط سياسي أو اجتماعي يتم تحت إشراف السلطة.

أزمة المشير عامر (1967)

في مارس 1967 تلقّى شعراوي جمعة، وزير الداخلية وأمين تنظيم طليعة الاشتراكيين، تقريرًا من بعض عناصر التنظيم يفيد بأن المشير عبد الحكيم عامر متزوج سرًّا من الفنانة برلنتي عبد الحميد، وأنها حامل منه وعلى وشك الوضع، وأنه خصّص حراسة من مكتبه العسكري لحماية الفيلا التي تقيم فيها بمنطقة الهرم.
وبعد أن تأكّد شعراوي من صحة ما ورد عبر قنوات وزارة الداخلية، رفعه إلى الرئيس جمال عبد الناصر باعتباره أمرًا يمسّ الرجل الثاني في الدولة.
وقد أدت هذه الواقعة إلى توتر علاقات شعراوي بالمشير عامر، الذي اعتبر ما حدث تدخلًا في حياته الخاصة واتهم وزير الداخلية بالتجسس عليه لصالح الرئيس، فبدأت بينهما مرحلة من الجفاء داخل قمة السلطة في الشهور الأخيرة السابقة لحرب يونيو 1967.

دوره في إحباط محاولة انقلاب عامر

في أعقاب هزيمة يونيو 1967 تزايدت المعلومات حول تخطيط المشير عبد الحكيم عامر لانقلاب عسكري لاستعادة سلطاته داخل الجيش، فكلف الرئيس جمال عبد الناصر مجموعة محددة من المسؤولين بإحباط التحرك قبل وقوعه.
تولى شعراوي جمعة الإشراف على الخطة الأمنية داخل القاهرة، ونسّق مع الفريق محمد فوزي لتنفيذ الشق العسكري، بينما قام أمين هويدي بمتابعة المعلومات الاستخبارية ورصد ولاءات الضباط، وأدار سامي شرف الاتصال المباشر بين عبد الناصر والجهات المنفذة.
وفي يوم الجمعة 25 أغسطس 1967، ومع تأكد الأجهزة من أن المشير يُعد لانقلاب عسكري، استدعى الرئيس جمال عبد الناصر المشير إلى منزله بمنشية البكري، حيث تم التحفظ عليه بهدوء حتى يتم القبض على أعوانه المتحصنين بمقر إقامته في الجيزة. واستمر تنفيذ الخطة حتى فجر السبت 26 أغسطس 1967، حين طُوِّقت فيلا المشير بالكامل وتم إجهاض الانقلاب دون إراقة دماء.
وقد عزز هذا الدور الحاسم من ثقة الرئيس جمال عبد الناصر في شعراوي جمعة، الذي أثبت كفاءته وانضباطه في إدارة أخطر أزمات ما بعد النكسة.

لغز لقاءات السادات مع الإخوان

رصدت الأجهزة الأمنية في يونيو 1970 لقاءاتٍ سرّية جمعت أنور السادات – نائب رئيس الجمهورية آنذاك – بعددٍ من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، كان يتولى ترتيبها القيادي الإخواني محمود جامع.
وعندما رُفعت التقارير إلى شعراوي جمعة، وزير الداخلية، أصدر تعليماته بعدم تسجيل ما يدور في تلك الاجتماعات إلا بإذنه الشخصي.
غير أن اللقاءات توقفت فجأة بعد أن بعث جمعة برسالةٍ حادة إلى السادات هدّده فيها بإبلاغ الرئيس جمال عبد الناصر، ومع ذلك يبقى السؤال المثير:
لماذا اكتفى شعراوي جمعة بالتهديد ولم يُخبر عبد الناصر مباشرة؟
خاصة وأن السادات – بشهادة محمود جامع نفسه – كان يسعى منذ ذلك الوقت إلى كسب ود وتأييد الإخوان استعدادًا لمرحلة ما بعد عبد الناصر.

شهادته على لحظة انتقال السلطة

في كتاب محمد حماد «وزير داخلية عبد الناصر – شهادة للتاريخ»، يروي شعراوي جمعة تفاصيل المرحلة الدقيقة التي أعقبت وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 وحتى أحداث مايو 1971.
يشير جمعة إلى أن جميع قادة الاتحاد الاشتراكي العربي كانوا يعارضون تولي أنور السادات الرئاسة، إذ لم يكن منتمياً إلى التنظيم الطليعي، كما أبدى شباب التنظيم ومنظمة الشباب رفضهم العلني له، حتى أنهم هتفوا ضده في أحد المؤتمرات الجماهيرية.
وفي المؤسسة العسكرية، أبلغ كبار قادة الجيش القائد العام الفريق محمد فوزي رفضهم القاطع لترشيح السادات، واقترحوا بدائل مثل زكريا محيي الدين أو فوزي نفسه.
ورغم هذا الرفض الواسع، مارس الفريق محمد فوزي وسامي شرف وشعراوي جمعة ضغوطاً قوية لإقناع الجميع بقبول السادات، مبرّرين ذلك بضرورة الحفاظ على الاستقرار السياسي في لحظة حساسة، ليكون جزاؤهم بعد ذلك أن انقلب عليهم السادات نفسه.

مناورة السادات وهيكل لخداع مجموعة مايو

اتفق محمد حسنين هيكل مع الرئيس أنور السادات على تنفيذ مناورة سياسية محسوبة هدفت إلى «تنويم» كلٍّ من شعراوي جمعة وسامي شرف، عبر إيهامهما بأن السادات ينوي تعيين شعراوي جمعة رئيسًا للوزراء.
كان الغرض من هذه الخطة تهدئتهما وإبعاد الشكوك عن نوايا السادات الحقيقية، وكسب الوقت اللازم للتحضير لضربته الحاسمة في مايو 1971، التي أنهت نفوذ رجال عبد الناصر داخل مؤسسات الدولة، ومهّدت لترسيخ سلطته المنفردة.

العملية “عصفور” وأحداث مايو 1971

تُعدّ عملية «عصفور» واحدةً من أجرأ وأنجح العمليات الاستخباراتية التي نفذها جهاز المخابرات العامة المصرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
بدأت العملية في ديسمبر 1967 حين نجح الجهاز في زرع أجهزة تنصّت دقيقة داخل مقرّ إقامة القائم بالأعمال الأمريكي في القاهرة، في أماكن متعددة شملت البهو الرئيسي وغرفة الاجتماعات وغرفة الطعام، بهدف التقاط ما يدور من محادثات واتصالات بين الدبلوماسيين الأمريكيين وضيوفهم ومسؤوليهم في واشنطن.

كانت التسجيلات تُرسل مباشرة إلى مقرّ المخابرات العامة، ثم تُعرض على الرئيس عبد الناصر بصفة دورية، ما أتاح له متابعة الموقف الأمريكي بدقة خلال المرحلة الحرجة التي أعقبت هزيمة يونيو 1967.

في التاسع من مايو عام 1971، التقطت أجهزة التنصت «عصفور» حوارًا دار بين القائم بالأعمال الأمريكي في القاهرة، بيرجس، ونائب وزير الخارجية الأمريكي جوزيف سيسكو، عقب لقائه بالرئيس أنور السادات. كشف سيسكو في تقريره أن السادات أبلغه بنيّته إقالة وزير الخارجية محمود رياض ووزير الحربية محمد فوزي، وفصل نحو مئةٍ وخمسين عضوًا من الاتحاد الاشتراكي، تمهيدًا لتحوّلٍ واضح في مسار السياسة المصرية، بعيدًا عن النهج الناصري الذي حكم البلاد طوال الحقبة السابقة.

وهكذا كان قادة مجموعة مايو (شعراوي جمعة وسامي شرف ومحمد فوزي) على علمٍ مسبقٍ بخطة السادات للإطاحة بهم قبل أربعة أيام فقط من تنفيذ ما عُرف بانقلاب 13 مايو 1971، ومع ذلك لم يتحركوا، فبدوا كمن امتلك مفاتيح النجاة لكنه ترك الأبواب تُغلق عليه ببطء.

استمرت ميكروفونات «عصفور» تعمل بكفاءة حتى انقلاب مايو 1971، دون أن يدري أنور السادات بوجودها. وبعد القبض على رجال عبد الناصر، أفشى محمد حسنين هيكل السرّ، كاشفًا للسادات تفاصيل العملية وحجمها وخطورتها.
لم يتردد السادات، فأبلغ كمال أدهم، مدير المخابرات السعودية، الذي سرعان ما نقل المعلومات إلى الأمريكيين.
وهكذا أُطفئت أعظم آذانٍ تجسسية عرفتْها القاهرة، وتوقفت ميكروفونات «عصفور» عن العمل إلى الأبد، لتُغلق صفحة من أبرز العمليات الاستخباراتية المصرية بعد أربع سنواتٍ من النجاح المتواصل.

تحضير الأرواح

في 4 فبراير 1971، فاجأ الرئيس أنور السادات الجميع بإعلانه مبادرة للسلام مع إسرائيل، دون أي تشاور مسبق مع كبار المسؤولين أو أجهزة الدولة. تضمنت المبادرة انسحابًا جزئيًا للقوات الإسرائيلية من شرق قناة السويس تمهيدًا لإعادة فتح القناة أمام الملاحة الدولية، إلى جانب وقف مؤقت لإطلاق النار وتحديد جدول زمني لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي يطالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة.
أدى هذا الإعلان المفاجئ إلى تصاعد حدة الخلافات بين السادات وشركائه من رجال عبد الناصر، وبدأت ملامح الانقسام داخل النظام تتكشف، حيث ازدادت المخاوف داخل الدائرة الناصرية القديمة التي رأت في خطوات السادات انحرافًا عن نهج عبد الناصر ومقدمة لتصفية إرثه السياسي.
وفي خضمّ هذا التوتر، لجأ بعض كبار المسؤولين إلى وسيلة غريبة في محاولة يائسة لفهم ما يجري واستشراف ما هو قادم.

في مقاله الأسبوعي «بصراحة» المنشور في 4 يونيو 1971 بعنوان «تحضير الأرواح»، كشف محمد حسنين هيكل عن واقعةٍ تبدو أقرب إلى الأسطورة منها إلى السياسة.
ففي الأيام الأخيرة قبل سقوط مجموعة مايو، اجتمع الفريق محمد فوزي وزير الحربية، وشعراوي جمعة وزير الداخلية، وسامي شرف وزير شؤون رئاسة الجمهورية، بناءً على اقتراحٍ من شعراوي جمعة، الذي استعان بأستاذ جامعي متخصص في تحضير الأرواح، على أمل استدعاء روح جمال عبد الناصر لتمنحهم «إشارة من الزعيم الراحل» تساعدهم في مواجهة أنور السادات الذي كان يتهيأ لإقصائهم.
وبحسب رواية هيكل، جرت الجلسة في أجواءٍ مشحونة يختلط فيها الغموض بالرهبة؛ أُطفئت الأنوار، وساد صمتٌ ثقيل، حتى أعلن الوسيط أن روح عبد الناصر قد حضرت. بدأ عبد الناصر يجيب عن أسئلة المجتمعين، ويحثّهم على التحرك فورًا، بلا ترددٍ أو تراجع، مؤكدًا أن التأخر لحظة واحدة قد يعني نهايتهم جميعًا، وأن الثورة التي صنعها لن تُنقذها إلا أيديهم.
لكن المفارقة المأساوية أن الحاضرين، بدلًا من أن يتحركوا، ظلّوا مشدوهين في أماكنهم، كأنهم تجمّدوا بين وفائهم للماضي وعجزهم عن مواجهة الحاضر.
جاء المشهد كتعبير حي عن لحظة فريدة ومأساوية اختلط فيها الإيمان بالزعيم بالوهم، والسياسة بالخرافة — حين حاول رجال عبد الناصر استدعاء روح زعيمٍ رحل، بينما كانت روح ثورته تنسحب منهم بهدوء، بلا رجعة.

الصدام مع السادات والنهاية

في 13 مايو 1971، كتب كبار رجال نظام عبد الناصر أحد أكثر فصول الغباء السياسي حدةً في تاريخ مصر الحديث. عندما أقال أنور السادات وزير الداخلية شعراوي جمعة، اختار هؤلاء المسؤولون، بدلاً من التفكير الاستراتيجي أو التحرك الحاسم، أن يقدموا استقالاتهم الجماعية. شملت الاستقالات وزير الحربية محمد فوزي، وزير شؤون رئاسة الجمهورية سامي شرف، وزير الإعلام محمد فائق، ورئيس البرلمان محمد لبيب شقير، إلى جانب آخرين. لم يكن هذا مجرد فقدان للوظائف، بل ضياع كامل لأنفسهم وضياع لنضال عبد الناصر الذي قضوا حياتهم يبنون نظامه ويحمونه.
بتصرفهم هذا، فرّغوا الحكومة من أقوى أركانها، ومنحوا السادات السلطة على طبق من ذهب ليعيد تشكيل سياسة مصر كما يشاء، دون أي مقاومة، هذا التصرف أصبح دليلاً لا يخطئ على قدرة الارتباك وعمى البصيرة على قلب كل تضحيات العمر إلى فرص مجانية ينتهزها الآخرون بلا رحمة.

لم يصدق السادات نفسه عندما وصلته استقالاتهم الجماعية، فقد كانت خطوة غير متوقعة تمامًا، وأنهت عمليًا أي صراع داخلي، وسهّلت له الفوز بالسلطة بالكامل دون مقاومة.
لم يكتفِ بذلك، بل شرع في اعتقالهم فورًا. وبعد يومين، في 15 مايو 1971، أعلن عن ثورة التصحيح، وقدّم كبار المسؤولين — بينهم شعراوي جمعة، سامي شرف، محمد فوزي، وعلي صبري وآخرون — إلى محكمة خاصة بتهمة التآمر ضد الدولة، فصدر في حقهم حكم بالإعدام، ثم خُفف لاحقًا إلى السجن المؤبد.

في عام 1972 أصدر الرئيس أنور السادات توجيهًا بإعداد كشف رسمي يضم أسماء جميع الضباط الأحرار لتوثيق تاريخ ثورة 23 يوليو، غير أنه أمر بحذف اسم الضابط الحر شعراوي جمعة من هذا الكشف، في محاولة لطمس دوره التاريخي وحرمانه من المعاش المخصص لأعضاء التنظيم.

في 25 ديسمبر 1975، والذي كان يوافق يوم ميلاد الرئيس أنور السادات الذي بلغ يومها 57 سنة، أرسل شعراوي جمعة رسالة للسادات يهنئه فيها بعيد ميلاده وزواج ابنته ويدعو له بالصحة، ويطلب منه أن يسمح له بقضاء المتبقي من سنوات عمره مع أسرته.
في يناير 1976 قرر الرئيس أنور السادات العفو عن شعراوي جمعة.
ابتعد شعراوي جمعة عن العمل العام حتى وفاة السادات في 6 أكتوبر 1981.

ذكر محمد فايق – وزير الإعلام الأسبق ورجل عبد الناصر في القارة الأفريقية – في مذكراته أن الرئيس حسني مبارك قابله هو وشعراوي جمعة في سنوات حكمه الأولى، وقال لهما:
«أنا ناصري، لكن لا أستطيع إعلان ذلك صراحة».
وأضاف فايق أن مبارك طلب منهما العمل على ضم الناصريين إلى الحزب الوطني، موضحًا أنه يفكر جديًا في هذا الاتجاه. كما عرض عليهما أن يتولى أحدهما وزارة الإعلام، إلا أنهما اعتذرا عن قبول المنصب تجنبًا لإثارة الهجوم على الرئيس في تلك المرحلة.
شارك شعراوي جمعة في الإعداد لتأسيس الحزب الناصري، ولكن المنية وافته في 28 نوفمبر 1988 قبل خروج الحزب للنور.

عُرف شعراوي جمعة بنزاهته واستقامته طوال مسيرته في العمل العام، فلم يتكسب يومًا من منصبه، ولم يُعرف عنه استغلال سلطته لمصلحة شخصية أو عائلية.
ظلّ نموذجًا للمسؤول الذي يتعامل مع السلطة كتكليف لا تشريف، محتفظًا بحياة متواضعة رغم المناصب الرفيعة التي تولاها. وقد أجمع الذين عرفوه وتعاملوا معه، سواء من زملائه في الحكم أو من مرؤوسيه، على أنه كان صاحب خلق رفيع، صريحًا ومخلصًا في عمله، يجمع بين الحزم الإدارى والإنسانية في التعامل، مما جعله محبوبًا ومحترمًا من الجميع.

تعكس تجربة شعراوي جمعة مدى تداخل الأمن والسياسة في بنية الدولة الناصرية؛ فمواقعه لم تكن تنفيذية فحسب، بل جزءًا من آلية إحكام السيطرة وضمان تماسك النظام في مواجهة التحديات.
ويكشف توليه في آنٍ واحد وزارة الداخلية وأمانة التنظيم في الاتحاد الاشتراكي والإشراف على التنظيم الطليعي عن المكانة المحورية التي احتلتها الأجهزة الأمنية في إدارة الدولة وصياغة توجهاتها خلال عهد عبد الناصر.

خاتمة

عاش شعراوي جمعة، مثل سامي شرف والفريق محمد فوزي، في قلب النظام الناصري سنوات طويلة، إلى جوار الرئيس جمال عبد الناصر، يتولّون إدارة ملفات حساسة تمسّ الجيش والأمن والسياسة والتنظيم الحزبي، وكانوا عيون النظام وسواعده القوية في مواجهة خصومه.
لكنهم، برغم نفوذهم الواسع، لم يكونوا في جوهرهم رجال قرار بقدر ما كانوا رجال تنفيذ، يبرعون في تطبيق التعليمات لا في صياغة التوجهات. فسلطتهم كانت امتدادًا لسلطة عبد الناصر، ومجدهم ظلّ يسطع من ضوء الزعيم وحده.
ومع الرحيل المفاجئ للقائد، انكشف الفراغ السياسي الذي تركه خلفه، وتبدّى ضعف رجاله الذين لم يعرفوا كيف يديرون دولة بلا زعيم. تاهوا بين الحذر والارتباك، ولم يدركوا أن المرحلة الجديدة تحتاج رجال فكر لا رجال أوامر.
فكان سقوطهم السريع أمام السادات شهادة على أن نظام عبد الناصر أنجب رجالًا أوفياء. لكنه لم يُنجب خلفاء قادرين على استكمال ما بدأه الزعيم.

هكذا كانت سيرة شعراوي جمعة، صفحة من صفحات جيل حمل الثورة على كتفيه، ثم عجز عن حمايتها عندما تبدّل الزمن.
رجلٌ وُلد في رحم المؤسسة العسكرية، عاش في قلب السلطة، وخدم زعيمه حتى آخر رمق، لكنه سقط حين تحوّل الولاء إلى عبء، ومبادئ عبد الناصر إلى تهمة.

Scroll to Top