تاريخ السودان الحديث.. من الدولة المصنوعة إلى دولة على حافة الانهيار.
✍️ بقلم: عمــرو صـابح
يبدو تاريخ السودان الحديث كآلة زمن معطوبة تعيد الشعب إلى النقطة نفسها مهما تغير المسار.
دولة مترامية الأطراف صنعت بيد خارجية، ونخبة عاجزة لا تعرف كيف تمسك بدفة الحكم، وجيش يملأ كل فراغ تخلفه السياسة، وأطراف مهمشة تتأرجح بين المقاومة والتمرد، ومركز يزداد صلابة كلما تصدع ما حوله.
في الخلفية، تتكاثر الميليشيات مثل ظلال منفلتة من جسد الدولة، ثم تعود لتنهشها. وحين يثور الشعب أملا في كسر الحلقة، تدور العجلة من جديد، لأن الدولة نفسها لم تصغ يومًا ككيان راسخ، بل كجدار هش ينتظر أول هزة لينهار.
لفهم جذور الصراعات الراهنة بين الجيش و”الدعم السريع”، لا بد من العودة إلى البدايات الأولى، حيث تشكّلت الدولة السودانية تحت تأثير قوى خارجية قبل أن يصوغ أبناؤها مشروعهم الوطني الخاص.
أولًا: مشروع محمد علي باشا
عندما قرر محمد علي باشا احتلال السودان عام 1821، لم يكن يتحرك بدافع التوسع العابر، بل كان ينفّذ مشروعًا يهدف إلى إعادة تشكيل وادي النيل وفق رؤيته الخاصة. كان الغزو يهدف إلى:
- الوصول إلى منابع نهر النيل.
- إمداد جيشه بالرجال عبر تجنيد الشباب والعبيد لتدعيم قوته العسكرية المتصاعدة.
- الاستيلاء على الموارد والثروات والذهب لدعم مشروعه الاقتصادي الطموح.
أسّس محمد علي لأول مرة إدارة مركزية في السودان، لكنها لم تكن إدارة تنشأ من داخل المجتمع، بل سلطة قسرية تعتمد على الضرائب الباهظة والسخرة، لا على عقد اجتماعي أو مشاركة السكان. كانت دولة تُبنى من فوق، لا من قاعدة المجتمع.
ومع ذلك، ترك هذا الاحتلال آثارًا لا يمكن تجاوزها:
رسم حدودًا سياسية واسعة لكيان واحد يحمل اسم “السودان”.
جمع مناطق متباعدة ومفككة داخل إطار إداري موحد لم تعرفه من قبل.
إقامة مركز سياسي في الخرطوم قبل ظهور أي هوية وطنية سودانية مستقرة.
عرف السودان للمرة الأولى شكل الدولة المركزية، لكنها كانت دولة قوية في هيكلها، ضعيفة في جذورها؛ دولة مفروضة لا تستند إلى قاعدة اجتماعية، وتنتظر من يخلف محمد علي ليحوّل هذا البناء من مشروع توسع إلى وطن حقيقي.
الثورة المهدية وإعادة فتح السودان (1881–1898)
شهد السودان انتفاضة شعبية واسعة قادها محمد أحمد المهدي، معلنًا نفسه المهدي المنتظر في عام 1881 في منطقة كردفان.
1) أسباب الثورة
الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي: كانت الضرائب الباهظة والسخرة اليومية تثقل كاهل الفلاحين والحُرفيين.
الاستغلال السياسي والديني: غياب العدالة وتهميش السكان المحليين.
البعد الروحي والديني: استخدم المهدي الدين كأداة لحشد الدعم الشعبي، مقدمًا نفسه كمنقذ للأمة من الاحتلال والفساد.
2) مسار الثورة
بدأ المهدي بحشد القبائل السودانية تحت راية الجهاد ضد الحكم المصري.
في عام 1885 استطاع أن يسيطر على الخرطوم بعد حصار دام ثمانية أشهر، ما أدى إلى سقوط الحكم المصري
تأسست الدولة المهدية، التي حكمت السودان بحكم مركزي مستقل، وشهدت فترة من الاستقرار الداخلي، لكنها واجهت تحديات اقتصادية وعسكرية كبيرة.
3) الإرث والتداعيات
الثورة المهدية أعادت السيادة السودانية مؤقتًا، وكسرت الهيمنة الأجنبية التي استمرت قرابة ستة عقود.
شكلت الدولة المهدية نموذجًا أوليًا للدولة المستقلة في السودان، لكنها كانت ضعيفة اقتصاديًا ومحرومة من الاعتراف الدولي، مما جعلها عرضة للهجوم البريطاني – المصري لاحقًا.
في عام 1898، وبعد حملة عسكرية بريطانية مصرية بقيادة كتشنر، سقطت الدولة المهدية، وتمت إعادة السودان إلى السيطرة البريطانية تحت نظام “الحكم الثنائي المصري – البريطاني.”
ثانيًا: الإنجليز وصناعة السودان الحديث – الدولة المُجزأة (1898–1956)
بعد القضاء على الدولة المهدية في عام 1898، تولت بريطانيا إعادة هيكلة السودان وفق مصالحها الإمبراطورية.
1) السودان تحت إدارة بريطانية خالصة
الحاكم العام للسودان كان بريطانيًا منذ بداية الحكم الثنائي حتى إعلان استقلال السودان، وكانت له السلطة العليا على الجيش والإدارة والسياسة.
مصر، بعد توقيع معاهدة 1899، أصبحت شريكًا شكليًا فقط، بدون أي سلطة تنفيذية أو عسكرية.
اخر حاكم لمصر زار السودان كان الخديوي عباس حلمي الثاني في عام 1902، بينما منع الإنجليز (حسين كامل، فؤاد، فاروق) من زيارة السودان، وظل لقب “ملك مصر والسودان” بلا أي اعتراف دولي.
عمليًا، كان السودان مستعمرة بريطانية خالصة حتى الاستقلال 1 يناير 1956.
السياسة البريطانية في السودان
طبّق البريطانيون منذ إعادة فتح السودان عام 1898 سياسة استعمارية تقوم على ما يمكن تسميته بـ”الهندسة الاجتماعية”، هدفها تفكيك البنية السكانية والثقافية وخلق مكوّنات معزولة يسهل التحكم بها. وقد اعتمدت هذه السياسة على إعادة تشكيل العلاقات بين الشمال والجنوب والوسط بوعي استعماري مُحكم.
- مديريات الجنوب (الاستوائية، بحر الغزال، أعالي النيل)
منذ مطلع الحكم الثنائي، فُرض على الجنوب نظام عزل صارم:
فصل سياسي وإداري كامل عن الشمال منذ عام 1898، تعزّز لاحقًا بإصدار قانون المناطق المقفولة عام 1922.
حظر اللغة العربية في المدارس والإدارة، وفرض التعليم التبشيري المسيحي باعتباره الأداة الثقافية الأولى.
منع حركة التنقل بين الشمال والجنوب إلا بتصاريح خاصة، ومنع التجار والمتعلمين الشماليين من العمل في الجنوب.
كان الهدف الاستعماري مباشرًا: خلق هوية ثقافية وسياسية مستقلة في الجنوب، مختلفة ومتنافرة مع الهوية العربية–الإسلامية في الشمال، بما يضمن استمرار الانقسام ويحول دون تشكّل دولة سودانية موحدة مستقبلًا.
- مديريات الشمال والوسط (الخرطوم، أم درمان، الجزيرة)
في المقابل، وجّه البريطانيون جهودهم لبناء مركز قوي يخدم الاقتصادات الإمبراطورية:
التركيز على مشروع الجزيرة الزراعي منذ عام 1925 لزراعة القطن والقمح لصالح الصناعة البريطانية.
تكثيف الاستثمارات في المناطق الوسطى والشمالية فقط، مع إهمال شامل للأطراف مثل دارفور، الشرق، والجنوب.
صناعة نخبة مدينية ضيقة في الخرطوم وأم درمان، تعتمد على الإدارة المركزية وعلى التعليم الحديث، لكنها غير قادرة على إدارة التنوع العرقي والجغرافي الواسع للسودان.
بهذه السياسات، رسّخ البريطانيون فوارق اقتصادية وثقافية حادة بين المركز والأطراف، وأقاموا دولة مركزية قوية ظاهريًا لكنها مجزّأة من الداخل، تحمل بذور الحروب الأهلية التي اندلعت لاحقًا منذ حرب الجنوب الأولى عام 1955 وحتى الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
ثالثًا: الاستقلال 1956 – دولة هائلة الحجم… وحكومة لا تملك أدواتها
حين رُفع علم السودان المستقل في 1 يناير 1956، خرج البلد إلى العالم بدولة شاسعة المساحة تفوق قدرة نخبها السياسية والإدارية. فالميراث الإداري كان محدودًا، والمعادلة السياسية مضطربة، والهوية الوطنية نفسها لم تُصَغ بعد في قالب جامع.
1) الأحزاب: طائفية بملابس حديثة
المشهد الحزبي لم يكن قائمًا على برامج وطنية، بل على ولاءات دينية وقبلية واضحة:
حزب الأمة استند إلى الأنصار وتراث المهدي، متمركزًا في الوسط والشمال.
الاتحادي الديمقراطي خرج من عباءة الختمية، وما زال مرتبطًا بمناطقها التقليدية.
هذا التكوين الطائفي جعل الأحزاب أقرب إلى جماعات نفوذ منها إلى مؤسسات سياسية قادرة على تخطيط مستقبل الدولة أو احتواء تنوعها العرقي والثقافي.
2) جهاز إداري هشّ
الدولة الوليدة ورثت إدارة محدودة الخبرة والموارد.
لم يكن هناك دستور دائم يحدد السلطة بوضوح، فظلت الحكومة تتحرك وسط فراغ قانوني.
أما المركزية في الخرطوم فكانت عبئًا لا ميزة؛ إذ تركت الأطراف—من الجنوب إلى دارفور—خارج عملية الدمج السياسي والإداري.
3) اقتصاد بدائي في بلد غني
تكوّن الاقتصاد حول الزراعة المطرية التقليدية، من دون قاعدة صناعية، أو شبكات نقل، أو استثمارات توسّع الرقعة المنتجة.
النتيجة..
فجوة تنموية قاسية بين المركز وبعض الولايات الشمالية من جهة، وبين الجنوب ودارفور وغيرها من الأطراف من جهة أخرى.
4) الأطراف خارج الحسابات
شعور الولايات البعيدة بأنها “درجة ثانية” في الدولة الجديدة لم ينشأ من فراغ.
التمثيل السياسي كان محدودًا، والتنمية ضعيفة، وتجاهل التنوع الثقافي واللغوي كان صارخًا.
هذا المناخ هو الذي مهّد للحرب الأهلية الأولى في الجنوب.
استقلال السودان كشف عن دولة أكبر من أدواتها، وأضعف من تركيبها السياسي، وأفقر من طموحات شعبها، فدخلت من يومها الأول منحدر الأزمات البنيوية التي ستصب لاحقًا في دوامة الانقلابات.
رابعًا: الانقلابات العسكرية – النتيجة الحتمية للأزمة السودانية (1958–1964)
كان الفريق إبراهيم عبود يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة السودانية قبل أن يقود في 17 نوفمبر 1958 أول انقلاب عسكري ناجح في تاريخ السودان الحديث، وهو الانقلاب الذي أطاح بحكومة رئيس الوزراء عبد الله خليل وأنهى التجربة البرلمانية الأولى، لينتقل عبود من قيادة الجيش إلى قيادة الدولة عبر مجلس عسكري استولى على السلطة بالكامل.
لم يكن المشهد دراما سياسية فجائية، بل نهاية منطقية لدولة مدنية تمشي على أرض رخوة.
1) أحزاب بلا مشروع، ودولة بلا بوصلة
الطائفية السياسية التي ورثها السودان بعد الاستقلال جعلت الحكومات المدنية عاجزة عن رسم سياسة موحدة، إدارة التنوع، أو حتى ضبط الجهاز التنفيذي.
2) الجنوب: الشرارة الأولى للنزاع المزمن
اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب منذ أغسطس 1955 كان إنذارًا مبكرًا بأن المركز فشل في فهم الأطراف.
لم تقدّم الحكومات حلولًا سياسية أو اقتصادية، ولم تطرح نظامًا يخفف التوتر، فتعاملت مع الأزمة بمنطق إداري بدائي لا يصلح لدولة متعددة الأعراق.
3) اقتصاد يترنّح وخدمات متدهورة
الدولة لم تستطع تحسين معيشة الناس، ولم توسّع البنية التحتية، ولم تستثمر المناطق البعيدة.
فصار التذمّر الشعبي وقودًا جاهزًا لأي قوة تتقدم إلى المشهد بزعم “إنقاذ” البلاد.
4) الجيش: إحساس مضاعف بالمسؤولية
وسط فوضى الأحزاب وتراجع الدولة، بدأ الجيش يرى نفسه آخر مؤسسة “منضبطة” يمكنها وقف الانهيار.
قادة المؤسسة العسكرية اعتقدوا أن المدنيين أفلسوا سياسيًا، وأن بقاء البلد موحدًا يتطلب تدخلهم المباشر.
5) حكم عبود ونهايته
سقط حكم الفريق إبراهيم عبود تحت وطأة عوامل متراكمة أثقلت الدولة والمجتمع؛ فقد أدّى اعتماد نظام حكم مركزي صارم وتقييد النشاط السياسي إلى تنامي استياء الطبقات المتعلمة والنقابات، بينما أسهمت السياسات الخاطئة في إدارة ملف الجنوب—خصوصًا التركيز على الحلول الإدارية والعسكرية—في اتساع دائرة التوتر هناك.
ومع تفاقم الضغوط الاقتصادية وتزايد شعور الشارع بغياب قنوات للتعبير، تحوّلت حركة الطلاب والمهنيين في أكتوبر 1964 إلى انتفاضة شعبية واسعة دفعت النظام إلى الانسحاب من المشهد، ليعلن عبود تنحّيه وعودة الحكم المدني.
وهكذا أصبح السودان أسيراً لدورة مأساوية متكررة: كل فشل مدني يمهّد لانقلاب عسكري، وكل انقلاب يفرخ أزمات أعنف، لتتوالى الحلقات بلا هوادة، وكأن البلاد محكومة بمسار لا يرحم، لا راحة فيه ولا نهاية للأزمات.
الفترة الانتقالية بين نهاية حكم عبود وانقلاب نميري: السودان 1964–1969
بعد سقوط حكم الفريق إبراهيم عبود في 30 أكتوبر 1964 إثر ثورة 21 أكتوبر الشعبية، تم تشكّيل المجلس السيادي الانتقالي برئاسة إسماعيل الأزهري لإدارة شؤون الدولة، فيما تولّت حكومة مدنية بقيادة محمد أحمد المحجوب المهام التنفيذية اليومية. ثم أجريت الانتخابات العامة، فتولى الصادق المهدي رئاسة الوزراء لفترة قصيرة بين يوليو 1966 ومايو 1967، قبل أن يعود محمد أحمد المحجوب لرئاسة الحكومة من 18 مايو 1967 حتى الانقلاب العسكري في 25 مايو 1969. خلال هذه الفترة، واجهت الحكومات المدنية تحديات كبيرة، شملت الانقسامات الحزبية العميقة، أزمة الجنوب المستمرة، ضعف مؤسسات الدولة، وتدهور الاقتصاد، ما أضعف ثقة الشعب في التجربة الديمقراطية ومهّد الطريق للعودة إلى الحكم العسكري
خامسًا: حقبة جعفر نميري – جمهورية المشروعات المتناقضة (1969–1985)
وصل جعفر نميري إلى السلطة في 25 مايو 1969 عبر انقلاب عسكري حمل اسم ثورة مايو، منهياً تجربة الفترة الانتقالية ومفتتحًا لمرحلة امتدت ستة عشر عامًا تميزت بأشد التحولات السياسية تناقضًا في تاريخ السودان الحديث. فقد انتقل نميري بين مشروع يساري–قومي في بدايات حكمه، وصولًا إلى تحالفات مع الإسلام السياسي في سنواته الأخيرة، في مسار جعل الدولة تعيش حالة من «الازدواجية السياسية» بين الحداثة القسرية والهوية الدينية المفروضة من أعلى. وقد انعكست هذه التناقضات على الجنوب، الذي أصبح ميدانًا لتجارب سياسية متضاربة لم تلبث أن فجّرت نزاعات متتالية.
1) المرحلة اليسارية الناصرية
مع بداية الحكم، أعلن نميري تبني مشروع يساري قومي يستلهم تجربة جمال عبد الناصر في الحرية والاشتراكية والوحدة. شملت سياسات نميري تأميم البنوك والمصانع والمشروعات الزراعية، في محاولة لإعادة هيكلة الاقتصاد السوداني ليصبح اقتصادًا موجهًا تحت سلطة الدولة. ترافق ذلك مع خطاب وحدوي يركز على بناء دولة مركزية قوية قادرة على فرض الاستقرار والتنمية من أعلى.
إلا أنّ هذا التوجه اصطدم منذ وقت مبكر بالقوى التقليدية، من طوائف دينية وأحزاب وسط ويمين ونخب تجارية لم تتقبل مشروعًا يلغي امتيازاتها التاريخية. نتج عن ذلك حالة توتر سياسي مستمر، خلقت هشاشة في توازن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، وأظهرت مبكرًا حدود قدرة الحكم العسكري على إدارة تحولات اجتماعية كبرى بدون شراكة سياسية أوسع.
2) الحرب الأهلية في الجنوب
وجد نميري نفسه منذ وصوله في قلب أزمة جنوب السودان المستمرة منذ أغسطس 1955. فقد ورث نظام مايو حربًا أهلية ممتدة، لم تنجح الحكومات السابقة في احتوائها. وعلى خلاف المقاربة العسكرية التي اتبعت بعد الاستقلال، اتجه نميري في بدايات حكمه نحو حل سياسي للنزاع، إدراكًا منه أن الجنوب يمثل المفتاح لاستقرار الدولة.
قاد هذا التوجه إلى اتفاق أديس أبابا 1972 الذي أنهى الحرب الأهلية الأولى بعد سبعة عشر عامًا دامية. وقد تضمن الاتفاق:
منح الحكم الذاتي لإقليم الجنوب في إطار السودان الموحد.
تأسيس مجلس إداري محلي بصلاحيات واسعة.
دمج القوات الشمالية والجنوبية في تشكيلات مشتركة لضمان توازن عسكري يمنع تجدد التمرد.
اعتراف رسمي بالخصوصية الثقافية واللغوية للجنوب، والسماح باستخدام الإنجليزية إلى جانب العربية.
بدا الاتفاق حينها إنجازًا تاريخيًا لنظام نميري، لكنه كان أيضًا اعترافًا بأن السياسات المركزية التي تجاهلت خصوصية الجنوب لعقود لم تعد قادرة على فرض الاستقرار بدون تسوية سياسية حقيقية.
3) نقض الاتفاق وإشعال الحرب الثانية (1983)
لم يصمد اتفاق أديس أبابا طويلًا أمام تحولات السلطة في الخرطوم. ففي عام 1983 اتخذ نميري قرارين غيّرا مسار السودان:
- حل الحكم الذاتي للجنوب وإعادة تقسيمه إلى ثلاث ولايات، الأمر الذي اعتبره الجنوبيون محاولة تفتيت منظمة لسلطتهم الإقليمية.
- إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية على كل السودان فيما عُرف بـ«قوانين سبتمبر 1983»، في خطوة جعلت الهوية الدينية للدولة أداة سياسية لفرض المركزية من جديد.
تزامن ذلك مع التوتر حول موارد النفط المكتشفة حديثًا في الجنوب واتهام الخرطوم بالاستحواذ عليها. هنا ظهر رد الجنوبيين عبر تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLA) بقيادة جون قرنق، التي لم تطرح مجرد تمرد جنوبي، بل مشروعًا كاملًا لسودان جديد: علماني، ديمقراطي، متعدّد الهويات، رافض لهيمنة المركز الأحادي.
هكذا اندلعت الحرب الأهلية الثانية، التي أصبحت الأطول والأعنف في تاريخ السودان، وأعادت تشكيل الدولة على خطوط الهوية والموارد والانتماءات الإثنية.
4) السقوط (أبريل 1985)
دخل نظام نميري سنواته الأخيرة مثقلًا بأزمات اقتصادية خانقة، فساد متصاعد، وسياسات قمعية ترافقت مع انحيازات دينية لم تنجح في استرضاء المجتمع ولا النخب.
اندلعت انتفاضة أبريل 1985 التي أطاحت بنظام حكم النميري.
لكن نهاية حكم نميري لم تعنِ نهاية مشكلات السودان البنيوية؛ فقد بقيت:
المؤسسة العسكرية أقوى من مؤسسات الدولة المدنية.
النزاعات في الجنوب تتسع مع تصاعد دور الحركة الشعبية.
الانقسامات القبلية والميليشيات تتحول إلى جزء من المعادلة السياسية.
السودان من سقوط نميري لانقلاب البشير (1985-1989)
بعد سقوط حكم جعفر نميري في انتفاضة أبريل 1985، تولّى المشير عبد الرحمن سوار الذهب، قائد عام القوات المسلحة ووزير الدفاع، رئاسة المجلس العسكري الانتقالي الذي قاد المرحلة الانتقالية، قبل إجراء انتخابات أبريل 1986 التي جاءت في ظل حرب الجنوب المتصاعدة وأزمة اقتصادية خانقة، لكنها اعتُبرت الأكثر حرية منذ الاستقلال.
تنافست فيها القوى التقليدية والحديثة على السواء، وفاز حزب الأمة بالمركز الأول، يليه الحزب الاتحادي الديمقراطي ثم الجبهة الإسلامية القومية التي حققت اختراقًا كبيرًا بحصولها على نحو خمس مقاعد البرلمان، فيما ظل الجنوب خارج العملية الانتخابية بشكل كامل بسبب الحرب الأهلية.
أسفرت الانتخابات عن برلمان بلا أغلبية مطلقة، مما أجبر الصادق المهدي على تشكيل حكومات ائتلافية هشة من حزبي الأمة والاتحادي أحيانًا، ومن حزبي الأمة والجبهة الإسلامية أحيانًا أخرى، في مشهد يعكس عمق أزمة النظام الحزبي.
ومع استمرار الحرب، وانهيار الاقتصاد، وتفكك الحكومة، كانت الجبهة الإسلامية توسّع نفوذها داخل الجيش ومؤسسات المجتمع المدني عبر اختراق منظم، حتى نفّذ ضباطها بقيادة عمر البشير في يونيو 1989 انقلابهم الذي أنهى التجربة الديمقراطية القصيرة وفتح الباب لثلاثة عقود من الحكم العسكري–الإسلامي.
سادسًا: انقلاب البشير – الدولة الموازية والدور الإخواني (1989–2019)
وصل عمر البشير للسلطة في 30 يونيو عام 1989 عبر انقلاب عسكري مدعوم من الإخوان المسلمين، بقيادة حسن الترابي والجبهة الإسلامية القومية.
منذ البداية، لم يكن الهدف مجرد السيطرة على السلطة، بل تأسيس دولة عقائدية هرمية، حيث أصبحت السلطة الفعلية بيد ما يُعرف بـ”الدولة العميقة الإسلامية”، رغم وجود مؤسسات رسمية للدولة.
امتلك النظام جهازًا أمنيًا ضخمًا، سيطر على الجيش والقضاء والإعلام، وأسس اقتصادًا موازٍ تديره الحركة الإسلامية.
الإخوان المسلمون لم يأتوا كحزب سياسي عابر، بل كقوة أيديولوجية، سيطروا على مفاصل الدولة الحيوية مثل وزارات الداخلية والعدل والإعلام والثروة المعدنية، وأسسوا شبكة ولاءات واسعة تضم العسكر المدنيين، الميليشيات، ورجال الأعمال المرتبطين بالحركة الإسلامية. كما عملوا على إضعاف الأحزاب المدنية التقليدية، لتصبح الدولة الرسمية مرتبطة مباشرة بالرؤية الإخوانية.
من الناحية الجغرافية والسياسية، ساهم الإخوان في تجزئة السودان عبر سياسات متعمدة: في الجنوب، استمرّت الحرب الأهلية الثانية بدل دعم الاتفاقيات السابقة، ما ساهم في تصعيد مطالب الانفصال؛ في دارفور والولايات الغربية، دعموا الميليشيات المحلية وأثاروا أزمات قبلية وغذائية لضمان ضعف الدولة المركزية؛ أما في الشمال والوسط، فقد عززوا نفوذهم عبر تعيين قيادات موالية داخل الجيش والأجهزة الأمنية.
على صعيد المؤسسة العسكرية، ساعد الإخوان في إنشاء مؤسسة الجيش الموازي.
بدأت ميليشيات الجنجويد تحت شعار حماية المركز من التمردات في دارفور، لكنها سرعان ما تحولت إلى قوة اقتصادية وعسكرية مستقلة.
امتداد هذه الميليشيات أصبح ما يُعرف بـ”الدعم السريع”، الذي امتلك مناجم الذهب، علاقات إقليمية، واستقلالية شبه كاملة عن الجيش الرسمي، ليصبح بذلك جيشًا ثانيًا موازٍ للسلطة الشرعية، وأداة ضغط على الجيش الرسمي وكيان سياسي–اقتصادي خارج إطار الدولة.
كما لعب الإخوان المسلمون دورًا في تسهيل انفصال الجنوب بعد اتفاقية نيفاشا 2005، عبر سياسات الإقصاء والتهميش: ضعف تنفيذ الحكم الذاتي، منع المشاركة الفعلية للجنوب في إدارة الموارد النفطية، وإشعال الخلافات بين المكوّنات الجنوبية. هذه السياسات خلقت بيئة مواتية لانفصال الجنوب في 2011، فكان السودان مقسومًا فعليًا إلى دولتين، بينما ظل النفوذ الإخواني مسيطرًا على الشمال.
الأثر طويل المدى لهذا الهيكل المزدوج كان واضحًا: الجيش الرسمي يسعى للانفراد بالقوة، والدعم السريع أصبح قوة مستقلة اقتصاديًا وعسكريًا، بينما النخب المدنية بقيت عاجزة عن بناء مشروع وطني جامع. هذا التوازن المشوّه بين الدولة الرسمية والموازية هو ما أوجد الأسس لانفجار الحرب الراهنة بين الجيش والدعم السريع، إذ أن المشروع الإخواني السابق صاغ سودانًا مزدوج المؤسسات والسيطرة أدى إلى الأزمة الحالية.
سابعًا: الجنوب – جرح الهوية الذي انتهى بالانفصال (1885–2011)
تُعد قضية جنوب السودان المرآة الأكثر تعبيرًا عن أزمة الدولة السودانية منذ تأسيسها الحديث. فهي قضية تتشابك فيها عناصر الهوية والتاريخ والموارد والسياسة، وتكشف كيف فشل السودان طوال أكثر من قرن في بناء علاقة متوازنة بين مركز قوي وأطراف مهمشة. وقد تراكمت جذور الأزمة منذ نهاية دولة المهدي، وعاشت مراحل من الحرب والسلام المؤقت، قبل أن تنتهي بانفصال كامل في عام 2011.
1) جذور الأزمة (1885–1955)
بعد انهيار دولة المهدي عام 1885، دخل السودان في مرحلة الحكم الثنائي (البريطاني–المصري) وفق اتفاقية 1899. اعتمدت الإدارة البريطانية سياسة العزل الجنوبي، التي فصلت الجنوب عن الشمال إداريًا وثقافيًا، ومنعت التواصل بينهما إلا في حدود ضيقة.
تميز الجنوب خلال هذه الفترة بـ:
اعتماد شبه كامل على التعليم التبشيري دون أي ربط بمؤسسات التعليم في الشمال.
غياب مشاريع التنمية التي استفادت منها مناطق الشمال والوسط.
تكوين نخبة جنوبية ضعيفة الارتباط بالدولة المركزية، ما جعل الانتقال إلى الحكم الوطني بعد الاستقلال انتقالًا صادمًا.
ومع إعلان استقلال السودان في يناير 1956، أُزيل هذا العزل فجأة، دون أي خطوات تمهيدية أو سياسات لردم الهوة بين المجتمعين. حاولت النخب الشمالية دمج الجنوب إداريًا وثقافيًا بسرعة كبيرة، الأمر الذي أدى إلى احتكاكات مباشرة وانعدام ثقة شامل.
2) الحرب الأهلية الأولى (1955–1972)
انطلقت الحرب الأولى عمليًا قبل الاستقلال بخمسة أشهر، عندما بدأ تمرد الفرقة الاستوائية في 18 أغسطس 1955.
كان ذلك مؤشرًا على أن الجنوب لم يكن مستعدًا للقبول بدولة مركزية يقودها الشماليون، خاصة بعد:
السودنة السريعة التي استبعدت الجنوبيين من مواقع الإدارة والجيش.
خوف الجنوب من الأسلمة والتعريب باعتبارهما تهديدًا لهويته الدينية والثقافية.
تواصل التهميش الاقتصادي الذي أبقى الإقليم خارج مشاريع التنمية.
استمرت الحرب 17 عامًا، وانتهت باتفاق أديس أبابا الذي منح الجنوب حكمًا ذاتيًا، لكنه لم يعالج جذور الأزمة العميقة في بنية الدولة السودانية.
3) الحرب الأهلية الثانية (1983–2005)
اندلعت الحرب الثانية بعد أن نقض نميري اتفاق الحكم الذاتي وأعلن الشريعة في 1983. لكن الصراع في هذه المرحلة أصبح أكثر تركيبًا، إذ تحوّل من نزاع حول السلطة الإقليمية إلى صراع حول مستقبل هوية الدولة السودانية نفسها.
الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق طرحت رؤية السودان الجديد، التي تنادي بدولة علمانية ذات مواطنة متساوية، بينما تمسكت الخرطوم بمشروع هوية عربية–إسلامية مركزية.
تداخلت مع هذه الصراعات عوامل النفط والحدود والقبائل، لتجعل الحرب الثانية واحدة من أطول الحروب الأهلية في إفريقيا، وخلّفت ملايين النازحين والضحايا.
4) اتفاقية نيفاشا 2005 – بداية الطريق نحو الانفصال
وقعت اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) في 9 يناير 2005 وأنهت رسميًا الحرب الأهلية الثانية، لكنها لم تنهِ مشروع الانفصال المتراكم منذ عقود. فقد نصت الاتفاقية على:
حكم ذاتي واسع للجنوب لمدة ست سنوات.
استفتاء لتقرير المصير في 2011.
تقاسم الثروة النفطية بين الشمال والجنوب.
ترتيبات أمنية تسمح بوجود جيش جنوبي مستقل داخل الإقليم.
كانت نيفاشا بهذا المعنى وقفًا لإطلاق النار أكثر منها معالجة لجذور المشكلة. فقد بقيت الخرطوم على مركزيتها، وبقي الجنوب خارج مشروع الدولة السودانية، مع تصاعد شعور بأن الانفصال هو المخرج الأكثر واقعية.
5) الاستفتاء والانفصال 2011
أُجري الاستفتاء في يناير 2011، وجاءت النتيجة كاسحة: 98.8% لصالح الانفصال. كان ذلك تتويجًا لمسار طويل عرف فيه الجنوب:
تهميشًا سياسيًا مستمرًا.
تجاهلًا للهوية الثقافية واللغوية.
غياب ثقة كامل بين الطرفين.
سياسات مركزية قاسية من الخرطوم.
ثروة نفطية تجعل من الدولة الجديدة كيانًا اقتصاديًا محتملًا.
وفي 9 يوليو 2011، أعلن قيام جمهورية جنوب السودان، منهيةً بذلك أكثر من نصف قرن من الصراع المسلح الذي بدأ قبل استقلال السودان نفسه.
لم يكن الانفصال حدثًا مفاجئًا، بل كان النتيجة الطبيعية لمسار تاريخي تشكل منذ الحكم الثنائي، وتكرَّس عبر السياسات المركزية، وتفاقم خلال الحروب الأهلية التي أصبحت جزءًا من بنية الدولة لا مجرد حوادث سياسية معزولة.
ثامنًا: دارفور – حين يتحول التهميش إلى سلاح (1916–2008)
تم ضم دارفور إلى السودان عام 1916 خلال الحكم الثنائي (الإنجليزي–المصري)، وذلك بعد حملة عسكرية أنهت حكم السلطان علي دينار الذي كان آخر سلاطين سلطنة دارفور المستقلة.
وبذلك أصبحت دارفور المديرية التاسعة ضمن مديريات السودان الخاضع للإدارة الاستعمارية
1) جذور الأزمة (1916–2003)
بعد ضم دارفور عام 1916، بقي الإقليم مهمشًا، ولم تُستثمر فيه البنى التحتية أو المشاريع الزراعية.
الصراعات القبلية: تراكمت صراعات على الرعي والزراعة، خاصة بين المجموعات العربية وغير العربية، مع ندرة الموارد وتراجع الأمطار منذ سبعينيات القرن الماضي.
تهميش سياسي مزمن: الخرطوم لم تمنح الإقليم تمثيلاً حقيقيًا في الحكومة، وظل القادة المحليون تحت إشراف إداري مركزي ضعيف.
هذه التراكمات شكلت بيئة جاهزة لتفجر العنف المسلح عند أي شرارة.
2) حرب دارفور (2003–2008)
بدأ النزاع المسلح رسميًا في 2003، عندما حملت حركتا العدل والمساواة وتحرير السودان السلاح ضد الحكومة المركزية، احتجاجًا على التهميش المزمن والفقر المدقع في الإقليم.
رد الرئيس عمر البشير كان تحالفًا مع بعض القبائل العربية المحلية وتسليح الجنجويد، وهي ميليشيات قبلية أصبحت لاحقًا نواة قوات الدعم السريع.
الهدف الرسمي كان حماية المركز وفرض السيطرة على الإقليم، لكن التسليح والتحريض على النزاعات القبلية أدى إلى:
مجازر واسعة طالت المدنيين.
تطهير عرقي للقبائل غير العربية.
نزوح أكثر من مليونَي شخص داخليًا وخارجيًا.
3) تداعيات النزاع
دارفور أصبحت نموذجًا لانهيار الدولة المركزية:
الدولة الرسمية لم تعد قادرة على فرض سيادة القانون.
ميليشيات موازية أصبحت قوة اقتصادية وعسكرية مستقلة عن الجيش الرسمي.
الإقليم ظل فوضويًا، مع استمرار التدخل الدولي في شكل بعثات الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.
النزاع أظهر فشل سياسات الخرطوم المركزية في دمج الأطراف المهمشة، وبرزت الحاجة إلى إعادة بناء الدولة بطريقة شاملة، تشمل جميع الأقاليم والمكونات.
تاسعًا: ثورة ديسمبر – لحظة أمل اصطدمت بدولة منهارة (2018–2019)
انطلقت ثورة ديسمبر 2018 كرد فعل متأخر على ثلاثة عقود من حكم عمر البشير (1989–2019)، الذي صاغ السودان في هيئة دولة موازية تعمل خارج مؤسساتها الرسمية. اعتمد النظام على تحالف معقد بين الحركة الإسلامية، وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، والمليشيات القبلية وعلى رأسها الجنجويد التي تحولت لاحقًا إلى قوات الدعم السريع.
مع سقوط البشير في 11 أبريل 2019 نتيجة الاحتجاجات الشعبية، وجد السودان نفسه أمام مرحلة انتقالية ترث دولة منهكة ومخترقة من شبكات مصالح راسخة. وكانت التحديات الأساسية التي واجهت الحكومة الانتقالية:
- جيش متفكك ومزدوج الهياكل
الجيش لم يكن كيانًا موحدًا، بل شبكة من المؤسسات المتوازية: القيادة العامة تحت عبد الفتاح البرهان، قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وأجهزة استخباراتية ووحدات شبه مستقلة. هذا التفكك خلق فراغًا في مركز القرار، وأضعف القدرة على بناء سلطة انتقالية متماسكة. - اقتصاد منهك
الحكومة الانتقالية ورثت اقتصادًا يعاني من تضخم هائل، انهيار العملة، عجز في الموازنة، ونقص حاد في الاحتياطيات الأجنبية، ما جعل تقديم الخدمات الأساسية وإطلاق إصلاحات اقتصادية مهمة شبه مستحيلة دون صدام اجتماعي وسياسي. - قوى موازية ذات مصادر تمويل مستقلة
أصبح لقوات الدعم السريع اقتصادها الخاص، يشمل مناجم الذهب وشبكات تجارية وتحالفات إقليمية، ما جعلها قوة عسكرية–اقتصادية مستقلة خارج سيطرة الدولة، تشكل تهديدًا مباشرًا للمؤسسات الرسمية. - نخب سياسية منقسمة
الأحزاب المدنية التي قادت الحراك كانت تفتقر إلى قيادة موحدة وبرنامج وطني شامل، فأسهمت الخلافات الداخلية في إضعاف القدرة على إدارة التوازن بين المدنيين والعسكريين. - صراع مدني–عسكري مستمر
منذ البداية، كان هناك توتر بين المجلس العسكري الانتقالي الذي يسعى للهيمنة والمكون المدني الذي يحاول إعادة بناء الدولة، ما أعاق اتخاذ قرارات مصيرية وأدى إلى غياب رؤية موحدة للمستقبل.
ثورة ديسمبر مثلت أملًا كبيرًا، لكنها اصطدمت بهشاشة الدولة، وانقساماتها، ومواردها المحدودة، وصراعات القوى، مما جعل الانتقالية عاجزة عن تأسيس نظام ديمقراطي فاعل.
عاشرًا: الحرب الراهنة – تصادم دولتين على أرض واحدة (2023–2025)
في 15 أبريل 2023، اندلعت الحرب بين الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وهي نتيجة طبيعية لبنية الدولة السودانية المتفككة منذ سقوط البشير، حيث أصبحت الدولة الموازية تتمتع بجيش واقتصاد مستقلين وقيادة منفصلة، ما جعل أي محاولة للدمج شبه مستحيلة.
نتائج الحرب
تفكك الدولة المركزية إلى مناطق نفوذ متعددة.
انهيار المدن الكبرى والفوضى في العاصمة.
تصاعد صراعات قبلية–قومية، خاصة في دارفور.
تدخلات إقليمية غذت الصراع.
نزوح الملايين داخليًا وخارجيًا، محدثة أكبر أزمة إنسانية في تاريخ السودان الحديث.
تهديد بتقسيم السودان إلى كيانات متعددة، أو ما يصفه الباحثون بـ«سودانات» بدل دولة واحدة.
الحرب ليست مجرد صراع على السلطة، بل نتيجة نهائية لمسار طويل من تآكل الدولة المركزية، وتحول الجيش والدعم السريع إلى مشروعين لدولتين متنافستين على جغرافيا واحدة، مع غياب مؤسسات وطنية جامعة.
خاتمة
مسار السودان معقد، والمسؤولية موزعة بين:
الاستعمار: خلق دولة بلا جذور اجتماعية أو مؤسساتية قوية.
النخب السياسية: عاجزة عن بناء مشروع وطني جامع، وطائفية الأحزاب أضعفت الدولة منذ الاستقلال.
العسكر: ملأوا الفراغ السياسي بالقوة العسكرية وحكموا خارج المؤسسات الديمقراطية.
الإسلاميون: أسسوا دولة موازية وأضعفوا الدولة الرسمية في الأطراف والمراكز.
المركز: فشل في دمج الأطراف وإدارة الموارد بعدالة.
المجتمع الدولي: اكتفى بإدارة الأزمات دون دفع مشروع إعادة بناء الدولة.
السودان لم يسقط فجأة، بل تآكل تدريجيًا عبر قرن من الزمن نتيجة تراكمات مؤسساتية وسياسية عميقة. المشكلة الأساسية ليست تغيير الحكّام أو وقف إطلاق النار، بل تكوين الدولة نفسها: ولدت بلا مشروع اجتماعي داخلي، ورثت انقسامات بين المركز والأطراف، وفشلت في بناء هوية وطنية جامعة، مما يجعل أي نهضة حقيقية مرهونة بإعادة هندسة الدولة بالكامل.
المراجع
عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد علي.
عبد الرحمن الرافعي، مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال: تاريخ مصر القومي من 1882 إلى 1892.
ونستون تشرشل، حرب النهر.. تاريخ الثورة المهدية.
محمد فؤاد شكري، صفحة من تاريخ السودان الحديث.
نعوم شقير، تاريخ السودان.
يونان لبيب رزق، الثوابت والمتغيرات في العلاقات المصرية‑السودانية.
يوسف الشريف، السودان وأهل السودان: أسرار السياسة وخفايا المجتمع.
فرانسيس دينق، صراع الرؤى.. نزاع الهويات في السودان.
جيرار برونييه، دارفور.. إبادة جماعية ملتبسة
أحمد إبراهيم أبو شوك، الثورة السودانية (2018‑2019): مقاربة توثيقية‑تحليلية.
مدني عباس مدني، السودان من الثورة إلى الحرب (2023).
Robert O. Collins, A History of Modern Sudan.
Gabriel Warburg, The Sudan Under Wingate / Islam, Nationalism and Politics.

