العقاد والفاروق .. تملق الأديب للمليك.
في فبراير 1950 أصدرت مجلة الهلال عددًا خاصًا للاحتفال بعيد الميلاد الثلاثين للملك فاروق الأول، المولود في 11 فبراير 1920. لكن المفاجأة الكبرى في هذا العدد لم تكن مواد الاحتفال، بل كانت افتتاحية عباس محمود العقاد، التي جاءت مشبعة بمديح مبالغ فيه للملك، في وقت كانت فضائح القصر وفضائح فاروق نفسه ملء السمع والبصر، خصوصًا بعد الوفاة الغامضة لرئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا عام 1946، وهو الرجل الذي ظل لسنوات يعيد تشكيل صورة مزيفة للملك، يخفي بها ضحالته وسقطاته.
في مقاله، عرض العقاد صورة شديدة السواد لمصر عند مولد فاروق: حكومة مدينة بمئة مليون جنيه، وإيراد سنوي يبلغ 16 مليونًا فقط، وشعب مدين بمئتي مليون للمصارف الأجنبية، ونسبة أمية تتجاوز 90%. بهذه الأرقام أراد العقاد أن يصوّر أن مصر لم تكن شيئًا قبل فاروق، وأن ميلاده كان ميلادًا لمصر نفسها، حتى قال عبارته الشهيرة:
«بلغ الفاروق الثلاثين، وبلغت مصر الثلاثين بعد هذا الميلاد الجديد!»

وكأن تاريخ مصر الممتد آلاف السنين لم يبدأ إلا بولادة ملك شاب كانت فضائحه تتراكم عامًا بعد عام.
لكن المفارقة الأكبر تكمن في أن مصر عام 1950 — أي في العام نفسه الذي كتب فيه العقاد مقاله — لم تكن تختلف كثيرًا عمّا كانت عليه عام 1920. فقد كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية خانقة: نظام إقطاعي يهيمن فيه حفنة من كبار الملاك على الأرض ويعيش الفلاحون تحت وطأة الفقر، واقتصاد مرتهن للأجانب من خلال احتكارات القطن والبنوك والنقل، وصناعة محدودة ملكيتها أجنبية، وبطالة مرتفعة، ومدن غارقة في العشوائيات، ونسب أمية ما تزال مخيفة. كانت مصر في 1950 تعاني من نفس المشكلات التي وُجدت يوم مولد فاروق: ديون، تبعية اقتصادية، فجوة طبقية هائلة، وخدمات اجتماعية تكاد تكون معدومة. ومع ذلك، يقدّمها العقاد كما لو كانت «مولودة» مع الفاروق، بينما الواقع أنها كانت غارقة في نفس أزماتها منذ عقود.
والمفارقة أن العقاد نفسه لم يكن دومًا قريبًا من القصر. فقد ارتبط طويلًا بحزب الوفد وكان مفتونًا بسعد زغلول، حتى صار كاتبه الأول، وكتب بعد وفاة الزعيم كتابه «سعد زغلول… زعيم الثورة» المليء بتمجيد الزعيم وسياساته. ودخل العقاد السجن بتهمة «العيب في الذات الملكية» في عهد الملك فؤاد، ولم يتراجع عن مواقفه حينذاك.
لكن العقاد ما لبث أن ابتعد عن الوفد بعد تولي مصطفى النحاس زعامته، غير مقتنع بقدرة النحاس على قيادة الحزب، فخرج نهائيًا عام 1935، وبدأ يقترب تدريجيًا من القصر، خاصة بعد وفاة الملك فؤاد واعتلاء فاروق العرش. وخلال الحرب العالمية الثانية أيد العقاد الحلفاء بضراوة، وكتب «هتلر في الميزان» مهاجمًا النازية دفاعًا عن الحرية والديمقراطية، لكنه لم يتردد لحظة في الهرب إلى السودان عندما اقتربت قوات روميل من مطروح خوفًا من وقوعه في أيدي الألمان.
وبمرور السنوات، تحول العقاد من داعية للتجديد الأدبي — ومؤسس لمدرسة الديوان مع المازني وشكري، ومهاجم شرس لشوقي والرافعي — إلى كاتب محافظ، قريب من القصر، مؤلف لكتاب يمجّد الملك عبد العزيز آل سعود، رافض للشعر الحر، مهاجم شرس للاشتراكية والشيوعية، ومتوجس من ثورة يوليو.
ولم تمض سوى عامين وخمسة أشهر على مقاله المادح لفاروق في الهلال، حتى انهارت المملكة التي بالغ في تمجيدها، وتحرك الضباط الأحرار لإسقاط عرش الملك. وهكذا، سقط فاروق سريعًا، وسقط معه كل خطاب التلميع الذي كُتب له، ليثبت أن الكلمات التي تُكتب لخدمة السلطة لا تحميها، وأن التاريخ لا يحفظ إلا المواقف الحقيقية لا الافتتاحيات المصنوعة.
