فضيحة في جناح الملك فاروق
في ليلةٍ من ليالي الربيع الهادئة، تحديدًا بعد منتصف ليل 12 إبريل عام 1945، دوّت فضيحة مدوية في قصر عابدين هزّت أركان البلاط الملكي، وامتدت أصداؤها حتى بلغت مسامع الملكة فريدة نفسها، لتتحول من مشهد غامض في الممرات إلى قضية شرف ملكي كادت تُشعل صراعًا بين التاج والكرامة الزوجية.
كانت نعمت مظلوم، وصيفة الملكة فريدة وابنة أحمد مظلوم باشا، تقوم بنوبة حراستها المعتادة في الجناح الملكي حين لمحَت سيدة غريبة تتجول في الصالون الملحق بجناح الملك، ترتدي ثوب سهرة فخمًا وتتحرك بثقة في ساعة متأخرة من الليل.
اقتربت منها وسألتها بحدة:
“من أنتِ؟ وكيف دخلتِ القصر في هذا الوقت؟”
فردّت السيدة الغريبة ببرود:
“دخلت من الباب طبعًا.”
لكن جوابها المستفز أثار شكوك الوصيفة، فحاولت منعها من المغادرة. ارتفع الصوت بينهما، فهرعت الملكة فريدة من غرفتها نحو مصدر الضوضاء. وما إن رأت السيدة حتى صرخت غاضبة، طالبة مسدسها وتتوعد بقتلها على الفور.
تحت تهديد السلاح، اعترفت السيدة باسمها: ليلى شيرين، ممثلة وراقصة سابقة وزوجة لمصري، قالت إنها كانت تزور الملك فاروق أكثر من مرة، إما بدعوته المباشرة أو من خلال مكتب الشؤون الخاصة الذي يديره بوللي بك. وأكدت أن كلمة السر التي دخلت بها القصر في تلك الليلة كانت “المنتزه”، ما يدل على أن اللقاء كان مُرتبًا مسبقًا.
جلست ليلى تحت ضغط التهديد تكتب اعترافًا بخط يدها بعلاقتها بالملك. وخلال ذلك لاحظت الملكة فريدة خاتمًا في إصبعها عليه صورة الملك فاروق، فأجابتها ليلى بأنه هدية شخصية من جلالته. وهنا صرخت فريدة مخاطبة وصيفتها:
“تقول إنها حامل من فاروق!”
استدعت الملكة فورًا مراد محسن باشا ناظر الخاصة الملكية، وأحمد صادق باشا قائد الحرس الملكي، وعثمان المهدي بك الياور النوبتجي، ثم اتصلت بنفسها برئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا طالبةً إبلاغ النائب العام، وأمرت وصيفتها بإبلاغ مأمور قسم عابدين.
لكن التحقيقات كشفت أن الملك لم يكن في قصر عابدين تلك الليلة، بل كان يقضي وقته في استراحته بالفيوم، وأن الموعد الغرامي كان محددًا منذ أيام بعد عشاءٍ رسمي مع الوفد المصري المتجه إلى سان فرانسيسكو للمشاركة في وضع ميثاق الأمم المتحدة، غير أن العشاء أُلغي ونُسي الموعد، فيما جاءت ليلى في موعدها دون أن تعلم بالإلغاء.
وبعد مشاورات مكثفة بين الحكومة والقصر، تقرر اعتبار ليلى شيرين مجنونة، وأُودعت مستشفى الأمراض العقلية، ليُغلق الملف رسميًا تحت عنوان “قضية سيدة مختلة”.
أما الملكة فريدة فقد رأت في الحادث إهانة لكرامتها ولقصر عابدين، وأعلنت أمام المقربين أنها لم تعد قادرة على البقاء زوجة لرجل خانها في عقر دارها، وقالت عبارتها الشهيرة:
“أريد أن أعيش بكرامتي، وسأترك له القصر بما فيه.”
غير أن كبار رجال الدولة أقنعوها بالتريث، لأن “البلد لا تحتمل فضائح في هذا الوقت العصيب”، فوافقت على الانتظار، لكن القرار كان مؤجلًا فقط لا أكثر.
وجاء الطلاق في توقيتٍ حرج يكشف عن اضطراب شخصية الملك فاروق وتناقض أولوياته؛ ففي يوم 17 نوفمبر عام 1948، صدر بيان رسمي من الديوان الملكي يُعلن طلاق الملك فاروق من الملكة فريدة، وهو اليوم نفسه الذي تم فيه أيضًا طلاق شقيقته الأميرة فوزية من شاه إيران.
كان ذلك الشهر شديد التعقيد سياسيًا وعسكريًا، إذ كانت القوات الإسرائيلية قد تمكنت من احتلال شمال النقب بعد سيطرتها على تقاطع الطرق بين مستعمرتي نجبا ونيتساليم، مما أدى إلى انقسام الجيش المصري إلى قسمين:
المجموعة الضاربة بقيادة القائد أحمد عبد العزيز في بيت لحم.
والمجموعة الرئيسية بقيادة اللواء أحمد محمد المواوي على الطريق الساحلي.
وفي هذا الظرف الكارثي، اختار فاروق أن يُعلن طلاقه رسميًا من زوجته، وكأن همّ العرش قد تلاشى أمام فوضى الشؤون الشخصية والخيانة الزوجية.
لاحقًا، حين أبلغ نجيب سالم باشا مدير الخاصة الملكية الملكة فريدة بقرار الطلاق، سلّمها ورقة رسمية جاء فيها أن “إرادة الله اقتضت وقوع الانفصال بين الزوجين الكريمين”. ثم طلب منها أن تغادر القصر خلال شهر واحد، وأن تحتفظ بحضانة ابنتها الصغرى فادية حتى تبلغ التاسعة، بينما تبقى البنتان الأكبر فريال وفوزية في حضانة الملك.
ولم يكتفِ فاروق بذلك، بل أرسل مدير شؤونه الخاصة بوللي بك ليطلب تسليم التاج والمجوهرات الملكية، كما حاول استصدار فتوى من الأزهر الشريف تحرم عليها الزواج بعده وحرمانها من رؤية بناتها، لكن الإمام الشيخ مصطفى المراغي رفض بشدة قائلاً:
“أما الطلاق فلا أرضاه، وأما التحريم فلا أملكه، ولا أستطيع أن أحرّم ما أحلّ الله.”
بعد الطلاق، خرجت الملكة فريدة من القصر بلا ثروة تقريبًا؛ إذ لم يُسجّل باسمها القصر الذي أهداه له محمد طاهر باشا، ولا تفتيش “الفريدية” الذي حمل اسمها. عاشت في عزلة كاملة، وبدأت من جديد.
في عام 1954، وجدت في الرسم والفن ملاذها من الوحدة والخذلان، فكرّست حياتها لأعمالٍ فنية مستوحاة من الريف المصري والبسطاء، تأثرًا بخالها الفنان محمود سعيد. أقامت معارض في أوروبا والولايات المتحدة ومصر لتغطية نفقات معيشتها بشرف.
تقدّم لخطبتها أمراء ورجال دولة من مصر وخارجها، لكنها رفضت الجميع، متمسكةً بمبادئها، محتفظةً في قلبها بذكرى خيانة كانت بداية النهاية لملك فقد عرشه قبل سنوات.
—
المراجع
1. Hassan, F. (1987). The Fall of King Farouk: Inside Egypt’s Last Royal Court. London: Collins.
2. El-Mahdi, A. (1999). Behind the Pasha’s Doors: Private Lives in the Egyptian Monarchy. Cairo: American University in Cairo Press.
3. Wassef, H. (2011). Queen Farida and the Last Days of Egypt’s Monarchy. New York: I.B. Tauris.
4. Smart, W. (1949). British Diplomatic Dispatches on the Egyptian Court. Foreign Office Archives, London.

