7 نوفمبر 1973
اليوم الذي غيّر وجه مصر.. السادات يسلّم مفاتيح القاهرة لواشنطن.

يوافق اليوم ذكرى يومٍ مفصلي في تاريخ مصر المعاصر، كان فاتحة عهد جديد في سياسات مصر داخليًا وخارجيًا، وأسس لنظامٍ شكّل انقلابًا كاملًا على نظام ثورة 23 يوليو 1952 — الذي امتد في الفترة من 23 يوليو 1952 حتى 7 نوفمبر 1973 — وتم تدشين هذا الزمن الجديد خلال اللقاء المنفرد الذي جمع بين الرئيس الراحل أنور السادات ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر.
أتى هذا اللقاء بعد العديد من الرسائل بين السادات وكيسنجر عبر محمد حافظ إسماعيل مستشار السادات للأمن القومي طوال أيام حرب أكتوبر 1973، وهي مجموعة رسائل أدت لتغيير مسار المعركة على الجبهتين المصرية والسورية، وكانت بمثابة نافذة مفتوحة لإطلاع الأمريكيين والإسرائيليين على نوايا مصر وسوريا السياسية والعسكرية.
يمكن مراجعة هذه الرسائل تفصيليًا في كتاب «سنوات الفوران» الجزء الثاني لمذكرات هنري كيسنجر، أو في الملحق الوثائقي لكتاب «أكتوبر 1973.. السلاح والسياسة» لمحمد حسنين هيكل.
كانت تلك الرسائل المشؤومة هي المقدمة التمهيدية لذلك الاجتماع المنفرد.
في يوم 7 نوفمبر 1973، كان الرئيس السادات يستقبل هنري كيسنجر في قصر الطاهرة للمرة الأولى وجهًا لوجه، وفي هذا الاجتماع المنفرد بينهما فوجئ كيسنجر — كما كتب بنفسه في مذكراته — بالسادات وأطروحاته.
فالسادات لم يطلب منه أن تعمل الولايات المتحدة على انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي المحتلة في حرب 1967 في إطار تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي، بل كل ما طلبه هو انسحاب إسرائيلي من ثلثي سيناء حتى خط العريش – رأس محمد.
بهذا خالف السادات الموقف العربي الثابت منذ حرب 1967، وحتى هذا المطلب رغم سرور كيسنجر به قال للرئيس السادات إنه لا يستطيع قبوله إلا بعد الرجوع للإسرائيليين.
وصارح السادات كيسنجر أن حصار الجيش الثالث ليس جوهر المسألة، وأن خطوط 22 أكتوبر 1973 لا تصلح للنقاش بين صانعي سياسة مثله هو وكيسنجر. كما أعلن السادات رغبته في عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة، وهي العلاقات التي تم قطعها عقب حرب 1967 إثر الدور الأمريكي الواضح في الحرب تخطيطًا وتنفيذًا.
وقد تبعت مصر في ذلك معظم الدول العربية التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية بالولايات المتحدة، ما أدى إلى خروج 62 ألف أمريكي من الوطن العربي في مشهدٍ مهين لهيبة الولايات المتحدة، الأمر الذي أغضب الرئيس الأمريكي جونسون واعتبره صفعة لمكانة بلاده وتحريضًا من الرئيس عبد الناصر.
وخلال الفترة من 1967 حتى 1973 حاولت الولايات المتحدة مرارًا إعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر، دون جدوى، بسبب إصرار مصر على أن تلزم الولايات المتحدة إسرائيل بالانسحاب من الأراضي العربية قبل تلك الخطوة.
أما الآن، فبعد حربٍ ضارية اهتزت فيها ثقة إسرائيل وتم كسر جيشها، يقدم السادات هذا العرض المجاني.
اغتبط كيسنجر لذلك، وفي ذهنه ما هو أبعد وأهم: أن عودة العلاقات الدبلوماسية المصرية الأمريكية ستفتح الباب لعودة علاقات أمريكا بكل دول العالم العربي.
يبلغ السادات كيسنجر أنه قرر رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي المصري الأمريكي فورًا من درجة قائم بالأعمال إلى سفير.
ولم يكتفِ السادات بذلك، بل أبلغه أنه ينوي تصفية ميراث سياسات الرئيس عبد الناصر وتوجهاته القومية، وسيعمل على طرد السوفيت من الشرق الأوسط، وقال له:
> «لقد كانت حماقة وطيشًا من عبد الناصر محاولاته الدائمة لابتزاز الأمريكيين وتحقيق أهداف مصر من خلال محاربة السياسة الأمريكية في العالم العربي وعلى امتداد العالم، وإن مصر خاضت ما يكفيها من حروب وتتطلع إلى السلام».
يسجل كيسنجر في مذكراته عن الرئيس السادات:
«إنه يمثل لي أفضل فرصة لكي نقلب المشاعر والاتجاهات والمواقف العربية تجاه إسرائيل، وهي أفضل فرصة تتاح لدولة إسرائيل منذ قيامها».
ويضيف كيسنجر أنه هو من أوحى للسادات بأن المشكلة بين مصر وإسرائيل هي مشكلة نفسية نجمت عن عدم ثقة إسرائيل بنوايا مصر وخوفها على أمنها، وأنه يجب على مصر أن تعطي إسرائيل الإحساس بالأمان.
وكالعادة، يوافقه السادات ويصارحه أن المشكلة الأساسية نجمت من رفض عبد الناصر الاعتراف بالهزيمة عام 1967 وإصراره على الحل العسكري للصراع، مما كلف مصر الكثير.
واتفق الطرفان في نهاية الاجتماع على مشروع «النقاط الست» الذي يعترف كيسنجر في مذكراته أنه من وضع رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير، ونص على ما يلي:
1. توافق مصر وإسرائيل على الاحترام الدقيق لوقف إطلاق النار الذي أمر به مجلس الأمن.
2. توافق مصر وإسرائيل على البدء فورًا في تسوية مسألة العودة إلى مواقع 22 أكتوبر في إطار الاتفاق على فض الاشتباك والفصل بين القوات تحت رعاية الأمم المتحدة.
3. تتلقى مدينة السويس يوميًا إمدادات من الطعام والأدوية، وجميع الجرحى والمدنيين في المدينة يتم ترحيلهم.
4. يجب ألا تكون هناك عقبات أمام وصول الإمدادات غير العسكرية إلى الضفة الشرقية للقناة (سيناء).
5. تُستبدل نقاط المراقبة الإسرائيلية على طريق السويس – القاهرة بنقاط مراقبة من الأمم المتحدة، وفي نهاية الطريق يمكن لضباط إسرائيليين الاشتراك مع الأمم المتحدة في الإشراف على الإمدادات غير العسكرية التي تصل إلى شاطئ القناة.
6. بمجرد تولي الأمم المتحدة نقاط المراقبة على طريق السويس – القاهرة، يتم تبادل جميع الأسرى والجرحى.
عندما سمعت جولدا مائير بنبأ الاتفاق قالت:
«إن هذا الاتفاق إنجاز خيالي، شيء لا يُصدّق، يفوق كل ما توقعتُه لإسرائيل».
بالطبع قالت ذلك لكيسنجر وليس للعالم.
بموافقة السادات على هذا الاتفاق، يكون قد قدم تنازلات جوهرية بدون مقابل للجانب الإسرائيلي.
لقد اعترف رسميًا بحصار الجيش الثالث المصري — وهو أمر كانت تروج له إسرائيل كدليل على انتصارها في نهاية الحرب — وتنازل دون مبرر عن شرط عودة إسرائيل إلى خطوط 22 أكتوبر 1973، رغم أن قرارات مجلس الأمن وضمانات القوتين العظميين تضمن له ذلك.
كما وافق على إطلاق سراح الأسرى والجرحى الإسرائيليين، وكان من ضمنهم 36 طيارًا إسرائيليًا أسقط الدفاع الجوي المصري طائراتهم خلال حربَي الاستنزاف و1973، فخسر بذلك ورقة تفاوضية هامة.
كما وافق السادات على طلب كيسنجر بأن تخفف مصر الحصار البحري على مضيق باب المندب، لكنه طلب إبقاء الأمر سرًا حتى لا يضر بموقفه أمام العرب.
نفذ الرئيس السادات كل تعهداته لكيسنجر، وبذلك انتهى عصر وبدأ عصر آخر هو نقيضه.
لقد كانت رؤية السادات تقوم على أن مفتاح المستقبل في يد الولايات المتحدة، وأنه لن يتحقق له الاستقرار أو الدعم إلا بإقناع واشنطن بشخصه ونهجه، دون المرور عبر الشعب المصري أو التعاون مع موسكو.
كان كل هدفه أن تقتنع به أمريكا وتتعامل معه مثلما تتعامل مع إسرائيل والسعودية، وأن تعتمده حليفها الأول في المنطقة.
—
المصادر:
سنوات الفوران – الجزء الثاني، هنري كيسنجر.
وعليكم السلام، محمود عوض.
أكتوبر 1973.. السلاح والسياسة، محمد حسنين هيكل.

