كانت الساعة السابعة إلا عشر دقائق صباح 9 يونيو «مثل هذا اليوم» 1967، حين وصل الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل إلى منزل الرئيس جمال عبدالناصر، حاملا مشروع خطاب أعده بتكليف من الرئيس، ويتضمن إعلان استقالته للأمة، وفقا لهيكل فى كتاب «الانفجار- 1967»، ويعترف هيكل: «كانت تلك تجربة فى الكتابة من أقسى ما عانيت فى حياتى، وظللت معها ليلة كاملة دون نوم تحت وطأة هم الكلمات وقبلها هموم الحوادث».
وصل هيكل إلى بيت عبدالناصر فى السابعة إلا عشر دقائق، وعرف أن الرئيس فى غرفة مكتبه منذ ساعات، وتوجه إليه مباشرة فوجده ممسكا بسماعة تليفون يناقش طرفا آخر، ويؤكد هيكل: «فهمت من مسار الحديث أن الطرف الآخر هو عبدالحكيم عامر»، ويكشف أن عبدالناصر بعد أن انتهت المكالمة، ترك كرسى مكتبه، وجلس على مقعد آخر، وجلس هو فى مواجهته.
يصف هيكل شكل عبدالناصر، قائلا: «لأول مرة كان فى استطاعتى أن أرى ملامح وجهه، كانت آخر مرة رأيته فيها منذ ثمان وأربعين ساعة، وإن كانت اتصالات التليفون بيننا لم تنقطع، وهو الآن بعد 48 ساعة فقط يبدو وكأنه أضاف إلى عمره عشر سنوات على الأقل، كان مرهقا بشكل يصعب وصفه، وفى عينيه سحابة حزن لم أرها من قبل رغم أننى رأيته كثيرا فى خضم أزمات عاتية سبقت».
يضيف هيكل: «كانت ملاحظته الأولى بعد أن جلس هى «أن عبدالحكيم عامر ضيع أعصابه تماما، ثم تنهد وقال «وضيع جيشه من قبلها»، ثم استدرك قائلا: «لكننى المسؤول، لا أستطيع أن ألوم أحدا إلا نفسى، إننى غاضب من نفسى بأكثر مما يتصور أحد».
طلب عبدالناصر من هيكل مشروع خطاب الاستقالة، فأعطاه له، وجرت مناقشتها، واستقرا على أن يكون «زكريا محيى الدين» رئيسا، ووصفه عبد الناصر قائلا: «زكريا عاقل، وذكى وفيه ميزات كبيرة، يمكن أن يكون مقبول دوليا، وهو قادر على الحوار مع الأمريكيين وهى ضرورة حتمية الآن، السوفييت قد لا يعجبهم اختياره بانطباعاتهم السطحية عنه، ثم مضى يقول: «موضوع السوفييت هام جدا، فالأمور كما هى الآن لا يمكن أن تقود إلى شىء، ولا يمكن أن يجئ شىء يمكن قبوله إلا بعد قتال يحصل فيه تصحيح الموازين، وإذا كنا سنقبل بما هو قائم الآن فليس أمامنا إلا الاستسلام، وإذا كنا نريد حلا حقيقيا فلن نستطيع الوصول إليه قبل معركة أخرى، وهنا أهمية السوفييت».
طلب عبدالناصر من هيكل قراءة نص خطاب الاستقالة، وأصغى صامتا، وطلب تعديل عبارة «إننى على استعداد لتحمل نصيبى من المسؤولية» إلى «إننى على استعداد لتحمل المسؤولية كلها»، وفى الثامنة والثلث صباحا ذهب هيكل بمشروع الخطاب إلى مكتب «سامى شرف» على الناحية الأخرى من الشارع لكتابته بالآلة الكاتبة ومراجعته فى صورته النهائية، واحتاج هذا الأمر قرابة الساعة مضت بين حالة من الهيستريا والهياج العصبى والصراخ من عبدالرحمن سالم موظف الآلة الكاتبة، وسامى شرف، رفضا للتنحى.
انتظر هيكل مع عبدالناصر بعد بدء كتابة الخطاب، واتصل بمكتبه بالأهرام ليعرف آخر الأخبار، وكانت أهمها أصداء موقف سوفيتى قوى تجاه عملية اليوم الأخير ضد سوريا، ويؤكد هيكل، أن عبدالناصر علق، قائلا: «تأخروا كثيرا لكى يظهروا هذا الحزم ويعلنوه، وعلى أى حال لا أستطيع أن ألومهم، لا أستطيع أن أتصور ما سيفعله الناس، والله لو أنهم أخذونى إلى ميدان التحرير وشنقونى فيه لما اعترضت عليهم، لهم الحق»، ثم أضاف أنه «شعر أن وجوده قد يكون عبئا على الأمة فى محاولة تضميد الجراح والعودة مرة أخرى إلى ساحة الصراع، فالأمور تقتضى ضرورة نوع من التعامل مع الولايات المتحدة، وهو لا يشعر أنه قادر عليه لأن قلبه ملىء بالمرارة منهم، وهذا شعور خطر فى العمل السياسى، فنحن فى العمل السياسى لا نستطيع أن نحكم عوامل الحب والكره».
بعد الانتهاء من كتابة الخطاب على الآلة الكاتبة طلب عبدالناصر من هيكل قراءته له بصوت مسموع ليتعود عليه ولا ينفعل أثناء إلقائه، وتجددت المناقشات، قال عبدالناصر: «كانت حجتهم دائما أن جمال عبدالناصر هو الذى يثير المتاعب لهم ولأصدقائهم، جونسون كان يقول ذلك، وفيصل كان يقولها أيضا، وكثيرون قالوها، سوف نبطل هذه الحجة وعلى الكل أن يواجه الحقيقة، فإما أننا أمة واحدة، وإما أننا نتحدث عن وهم، إما أن تقدر هذه الأمة فى يوم من الأيام على تحقيق ما تريد، وإما تقبل بالاستسلام لإسرائيل ومن وراءها».
فى الساعة السابعة إلا خمس دقائق أذاع التليفزيون والإذاعة الخطاب وبعد الانتهاء بدقائق خرج الملايين فى مصر والدول العربية رفضا للتنحى.