بقلم : عمرو صابح
اليوميات الشخصية لجمال عبد الناصر خلال مشاركته فى القتال فى حرب فلسطين هى أول وثيقة بخط يد جمال عبد الناصر تعبرعن مشاعره وانطباعاته كضابط مصرى يقاتل ضد العدو الصهيونى فى فلسطين ، وتنبع أهميتها من كونها مكتوبة وجمال عبد الناصر خارج السلطة.
بدأ جمال عبد الناصر تدوين يومياته الشخصية فى يوم 3 يونيو 1948 وانتهى تدوينه لها فى يوم 30 ديسمبر 1948 ، فقد توقف جمال عبد الناصر عن الكتابة وهو فى منتصف جملة كان يكتبها بسبب تجدد الهجمات الإسرائيلية على موقع كتيبته .
فى أول أيام التدوين سنجد أن جمال عبد الناصر ذهب لمعسكر المتطوعين لمقابلة الصاغ محمود لبيب وعندما لم يجده وأثناء طريقه إلى غزة يقابله بصحبة الشيخ محمد فرغلى ويتفق جمال عبد الناصر معهما على أداء صلاة الجمعة سويا فى معسكر المتطوعين.
الصاغ محمود لبيب واحد من أهم رموز جماعة الإخوان المسلمين وهو من مؤسسى الجهاز الخاص الجناح العسكرى للجماعة وكان القائد العام لمتطوعى الإخوان المسلمين فى فلسطين ، والشيخ محمد فرغلى هو قائد كتائب الإخوان المسلمين فى حرب فلسطين عام 1948 وعضو مكتب الإرشاد ورئيس منطقة الإسماعيلية والقناة وأحد مؤسسى الجهاز الخاص للجماعة أيضا.
يبدو حرص جمال عبد الناصر على لقاءهما مدعاة للتساؤل حول العلاقة التى كانت تربط بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين قبل الثورة ، وفى نفس الوقت يرد بقوة على ما أثارته الجماعة من أكاذيب عن صلة ربطت بين جمال عبد الناصر والإسرائيليين أثناء حرب فلسطين فى إطار محاولتهم لتشويه سمعته إثر احتدام الصراع السياسى بين الضباط الأحرار والجماعة بعد الثورة ، كان جمال عبد الناصر من أشد المتحمسين للاشتراك فى حرب فلسطين وقبل أن تقرر الحكومة المصرية دخول الحرب كان يفكر فى التطوع للقتال فى فلسطين، وهناك واقعة شهيرة عن التحقيق الذى تعرض له جمال عبد الناصر بعد حرب فلسطين عندما تم اكتشاف كتاب أصدره الجيش عن صنع القنابل اليدوية عليه توقيعه أثناء تفتيش إحدى شعب جماعة الإخوان إبان حملة اعتقالهم عام 1948 ، وقد قام إبراهيم عبد الهادى باشا رئيس الوزراء المصرى وقتها باستدعاء جمال عبد الناصر فى مايو 1949 بعد عودته من ميدان القتال للتحقيق معه عن صلته بجماعة الإخوان المسلمين بحضور الفريق عثمان المهدى رئيس هيئة أركان الجيش ، وقد نفى جمال عبد الناصر صلته بالجماعة وقال لرئيس الوزراء أنه أعطى الكتاب لزميله الضابط أنور الصيحى ، وعندما سأله إبراهيم عبد الهادى :أين أنور الصيحى؟ أجابه جمال عبد الناصر: أنه أستشهد فى حرب فلسطين،فصرفه رئيس الوزراء بعد أن حذره وهدده .
توفى الصاغ محمود لبيب يوم 18 ديسمبر 1951 قبل الثورة، بينما قاد صراع جماعة الإخوان المسلمين مع ثورة يوليو الشيخ محمد فرغلى إلى حبل المشنقة بعد محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر بالإسكندرية يوم 26 أكتوبر 1954 والتى كان الشيخ محمد فرغلى واحد من الضالعين فى التخطيط لها .
يظهر عبد الحكيم عامر مبكرا فى دفتر يوميات جمال عبد الناصر فهو يقابله يوم 4 يونيو 1948 ويلحظان معا مدى هشاشة التحصينات الدفاعية للقوات المصرية وعدم وجود عمق وغياب الاحتياطى الاستراتيجى للجيش المصرى، وعلى امتداد اليوميات سنجد عبد الحكيم عامر موجودا بها ولكن برغم وجود أسماء أخرى لشخصيات لعبت دورا هاما فى الثورة عام 1952 مثل صلاح سالم ، كمال الدين حسين ، زكريا محيى الدين.
يمكننا ملاحظة أن صلة جمال عبد الناصر بعبد الحكيم عامر مختلفة فالعلاقة بينهما أعمق وأوثق وصداقتهما ليست مجرد صداقة شخصية بل تبدو عائلية أيضا فعبد الحكيم عامر هو الذى يقوم خلال حصار جمال عبد الناصر فى الفالوجة بالاتصال بأسرته ومعرفة أحوالهم ثم يطمئن جمال عبد الناصر على زوجته وابنتيه(هدى،منى) لم يكن جمال عبد الناصر وقتها أنجب أبناءه الذكور الثلاثة (خالد،عبد الحميد ، عبد الحكيم).
وعلى امتداد اليوميات يمكننا رصد مدى ارتباط جمال عبد الناصر بأسرته الصغيرة زوجته تحية وطفلتيه (هدى ، منى ) فهو مشغول البال دوما بأحوالهن وبمستقبلهن ودائم السؤال عنهن والاتصال بهن كلما سنحت له الفرصة ، بل أنه فور إصابته برصاصة فوق قلبه يفكر فيهن على الفور.
ولكن ليس هذا هو المهم فارتباط جمال عبد الناصر بزوجته وأبناءه بوجه عام وتعلقه بأسرته الصغيرة معروف ،ولكن اللافت للنظر هو عمق صلته بوالده فهو حريص على الاتصال به والاطمئنان عليه وإرسال الخطابات له واستلام خطابات منه أيضا ، يبدو هذا ملفتا فقد أثيرت أقاويل كثيرة وسال حبر أسود كثيف على الورق عن سوء علاقة جمال عبد الناصر بوالده واتسامها بالتوتر الدائم وتأثير ذلك على تكوين جمال عبد الناصر النفسى والشخصى منذ تزوج والده من سيدة أخرى السيدة “عنايات الصحن”، عقب وفاة زوجته الأولى السيدة “فهيمة محمد حماد” والدة جمال عبد الناصر، وأشاع خصوم جمال عبد الناصر أنه كان مصابا بعقدة أوديب يحب أمه ويكره والده ، بينما يتضح من اليوميات التى خطها الضابط جمال عبد الناصر وقد تجاوز الثلاثين من عمره بقليل أن ذلك غير صحيح فعلاقته بوالده تبدو طبيعية وحميمة وليس والده فقط بل بعمه أيضا، وإن كان لم يذكر أسم هذا العم وأرجح أنه عمه خليل ، وكذلك أخيه عز العرب عبد الناصر فهو على اتصال به عبر الخطابات ،وكذلك نجد اتصال من جمال عبد الناصر لشخص يدعى “عبد الحميد” يوم 9 سبتمبر 1948 يبلغه أن إجازته تأجلت ويطلب منه إعلام الأسرة ، وأعتقد أنه عبد الحميد كاظم الشقيق الأكبر للسيدة”تحية” زوجة جمال عبد الناصر وكانت علاقته بجمال عبد الناصر وطيدة رغم أنه كان رافضا فى البداية لزواج أخته تحية منه ، وقد توفى عبد الحميد كاظم مبكرا بسبب مرض الدرن، وسمى جمال عبد الناصر ثانى أبناءه الذكور عبد الحميد على أسمه ،كما يرد أسم “السيد يوسف” عديل جمال عبد الناصر فى دفتر اليوميات والذى كان ناظرا لمدرستى المنيا الثانوية والمنصورة الثانوية وبعد ذلك أصبح رئيسا لديوان الموظفين ثم وزيرا للتربية والتعليم كصلة اتصال مع أسرته، وهكذا فعلاقات جمال عبد الناصر بأسرته تبدو طبيعية للغاية بدون عقد نفسية توهمها خصوم جمال عبد الناصر.
فى يوم 23 أغسطس 1948 يكتب جمال عبد الناصر معبرا عن صدمته البالغة لمقتل الضابط أحمد عبد العزيز قائد المتطوعين فى حرب فلسطين برصاصة خاطئة – نيران صديقة كما يقال الآن- فقد أطلقت عليه رصاصات خاطئة من القوات المصرية لاعتقادهم أنه من الجانب الإسرائيلى.
كتب جمال عبد الناصر ” لقد تألمت جدا فإن احمد عبد العزيز كان يحب أبناءه، وكان فى عز مجده الذى لم يجاز عليه ، ولم يره الشعب ، ولم يستقبله ، مات أحمد عبد العزيز وكله أمال فى الحياة ، لقد تألمت جدا لهذه الآمال التى انهارت كان آخر ما قاله لصلاح سالم”.
تبدو هذه الكلمات صادقة ومعبرة عن حزن جمال عبد الناصر على البطل الراحل وهى تهمنا على وجه الخصوص لكونها أبلغ رد على بعض الكتب المشبوهة التى أصدرها خصوم جمال عبد الناصر فيما بعد واتهموا فيها جمال عبد الناصر بقتل أحمد عبد العزيز !!
إلى هذا الحد بلغ الاستخفاف بالبعض أن يستبيحوا التاريخ لإلصاق فرية قذرة كتلك بجمال عبد الناصر فى إطار سعيهم لاغتيال شخصيته وتشويه سيرته.
وعبر صفحات دفتر اليوميات سنجد اللقاء بالإسرائيليين وسنلحظ أن جمال عبد الناصر يصفهم دوما باليهود أو بالعدو وليس بالإسرائيليين.
يطلب العدو تحديد لقاء مع قيادة القوات المصرية المحاصرة فى الفالوجة يتم إرسال جمال عبد الناصر من قبل القيادة المحاصرة لتحديد مكان اللقاء وبالفعل يتم اللقاء فى مستعمرة جات اليهودية حيث توجه من الجانب المصرى السيد طه ، ورزق الله الفسخانى ، وجمال عبد الناصر ، وإبراهيم بغدادى ، وخليل إبراهيم إلى مستعمرة الجات ، وتنتهى المفاوضات بينهما بالفشل لرفض الجانب المصرى الاستسلام ، ورفض اليهود إخلاء الجرحى إلى غزة .
وهكذا لم يكن اللقاء منفردا بين جمال عبد الناصر والضباط الإسرائيليون ولم يتفق معهم على شئ ولم يخطط معهم لثورته كما كتب الإخوان بغزارة فى أدبياتهم عن صلات ولقاءات جمعت جمال عبد الناصر بالإسرائيليين خلال حرب فلسطين عام 1948 .
كان جمال عبد الناصر ضابطا ضمن وفد تفاوضى وقد فشل التفاوض، يرصد جمال عبد الناصر خلال زيارته لمستعمرة الجات الفوارق الحضارية بين اليهود والعرب والمدنية والرخاء الذى يتمتع به اليهود خلال حياتهم بالمستعمرة مقارنة بأوضاع العرب البائسة.
على امتداد صفحات اليوميات يبدو جمال عبد الناصر غاضبا وساخطا على الأوضاع التى يعانى منها الجيش المصرى فى الحرب ، واتهاماته دائمة للقيادة العسكرية بالتخبط والجهل بل أنه يتهمها بأنها سبب كل المصائب وأنه لا توجد قيادة للجيش المصرى فى فلسطين من الأساس فهى قيادة عاجزة لا تملك خطة ولا احتياطى همها الوحيد هو الهرب والنجاة بعيدا عن المعركة وإطلاق تصريحات وبيانات كاذبة عن انتصارات وهمية لم تحدث .
تبدو تلك الكلمات مريرة وتحتاج لتعمق فى قراءتها فالضابط جمال عبد الناصر عانى من ذلك هو وكل القوات المصرية المحاربة فى فلسطين ولكن لسوء الحظ تكررت مثل تلك الأخطاء بحذافيرها تقريبا بعد 19 عاما أثناء حرب 5 يونيو 1967 وكأننا لم نتعلم شئ ، وربما كان هذا أكثر ما حز فى نفس جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967 أن يشهد نفس المأساة مرتين ، ومؤكد أن ذلك كان دافعه بعد أن قضى على محاولة انقلاب المشير عبد الحكيم عامر بعد النكسة للقيام بإعادة بناء القوات المسلحة المصرية من الصفر وخوض حرب الاستنزاف بها فى ظروف بالغة الصعوبة حتى تمكن بعد ثلاث سنوات من الهزيمة أن يحقق المعجزة ويقيم بسواعد الأبطال من المصريين أكبر حائط صواريخ فى العالم وقتها ويبنى جيش المليون من الجامعيين ويصدق على خطط العبور والتحرير ولكن شاءت الأقدار ألا يشهد جمال عبد الناصر بعينيه النصر الذى صنع كل مقوماته، فقد خانه قلبه وتوقف عن النبض فى يوم 28 سبتمبر 1970 هذا اليوم الأسود فى تاريخنا.
تظهر بوادر الصمود والتحدى الكامنة فى شخصية جمال عبد الناصر والتى ستكون من علامات عهده فيما بعد على صفحات اليوميات وتحديدا يوم 28 أكتوبر 1948 ، فالطائرات الإسرائيلية تمطر القوات المصرية المحاصرة فى الفالوجة بالمنشورات التى تطالبها بالاستسلام يكتب الضابط جمال عبد الناصر معلقا على ذلك ” كلام فارغ قابله الجميع بالسخرية ، فبالرغم من أننا محاصرون من يوم 16 ، وبالرغم من طلبنا تعيينات وذخيرة بواسطة الطيران ، وبالرغم من أن طلباتنا لم تجب ، ولم يلتفت إليها ، فسنقاوم إلى أخر رجل “
أنها روح التحدى والمقاومة المطبوعة فى شخصيته والتى قاد بها أمته طيلة 18 عاما مجيدة فى تاريخها ولم تفارقه فى لحظات الهزيمة.
كما تبدأ فكرة الثورة تنبت فى عقله ، فما يعانيه الجيش المصرى هو من صنع القيادة العسكرية الفاشلة وقيادة البلاد العاجزة فيكتب ” لقد فقدنا الإيمان فى قيادة الجيش وقيادة البلاد ، هؤلاء المضللون الممثلون ، ماذا عملوا بعد أن دخلنا الحرب ؟ لا شئ “
أنها بذور الثورة التى أينعت بعد أقل من أربع سنوات من الهزيمة فى حرب فلسطين عام 1948 .
يبدو الضابط جمال عبد الناصر فى يومياته الشخصية مدركا لطبيعة الصراع مع العدو الصهيونى مدركا لقوة العدو وتفوقه وكونه جزء من الغرب مزروع فى الوطن العربى، كما نلحظه حزينا على مستقبل الفلسطينيين ومتأثرا لما سيحيق بهم من جراء الهزيمة وانسحاب الجيوش العربية من فلسطين ، وقد ظل هذا الإدراك يحكم سياساته طيلة عهده فقد رفض أى حل جزئى منفرد لا يرجع للشعب الفلسطينى حقه فى أرضه المسلوبة .
تمثل هذه اليوميات الشخصية للضابط جمال عبد الناصر فى حرب فلسطين وثيقة تاريخية نادرة تلقى أضواء كاشفة على شخصية أهم عربى فى التاريخ الحديث، وفضلا عن أهميتها لكون جمال عبد الناصر كاتبها ، فأن صدقها هو الأهم نحن أمام ضابط شاب يخوض حربا فى ظروف غير مواتية ثم يحاصر وهو خلال كل ذلك حريص على تدوين يوميات شخصية له ، يعبر فيها عن حقيقة مشاعره وما يشغل باله وهو لا يدرى إن كان سيقرؤها أحد غيره بل ولا يدرى إن كان هو ذاته سينجو من الحرب أم لا ؟!
لقد كان جمال عبد الناصر أحد أبطال حرب فلسطين عام 1948، فقد دخلت الكتيبة السادسة من الجيش المصرى التى كان يشغل منصب رئيس أركانها فلسطين يوم 15 مايو 1948 ، وقد أصيب بالرصاص مرة قبل حصار الفالوجة ، وقد حصل على نجمة فؤاد العسكرية لشجاعته، وكان بين أفراد القوات المصرية التى حوصرت فى الفالوجة بدء من 21 أكتوبر 1948 ، وأصيب خلال الحصار مرتين وكاد أن يفقد حياته.
كانت حرب فلسطين وفساد الإدارة السياسية والعسكرية المصرية وحصار القوات المصرية فى الفالوجة هى الأسباب الرئيسية التى دعت جمال عبد الناصر للبدء فى الإعداد للقيام بالثورة ، فقد رأى جمال عبد الناصر أن الحل لمأساة مصر يتلخص فى الإطاحة بنظام الحكم الفاسد الذى قاد البلاد إلى الهزيمة ، وكذلك التخلص من الاحتلال البريطانى، ومن هنا فإن الجيش الذى فشل فى الاستيلاء على فلسطين قرر الاستيلاء على القاهرة .
ستظل تلك اليوميات الشخصية لجمال عبد الناصر وثيقة بالغة الأهمية عن شخصيته وتكوينه وهى تمثل خطوة على الطريق لفك مفاتيح شخصيته.