جمال عبد الناصر : أي وجه نستعيد ؟!..
بقلم : أحمد عز الدين
أي إضافة نوعية قد يكون بمقدورك أن تضيفها إلى ملايين الصفحات التي كٌتبت عنه ، وأي مسحة لون طازجة وفارقة ، قد يكون بمقدورك أن تضيفها إلى صورته المُشبعة بألوان الحياة ، وكأنها في ذاتها مصدرا متجددا، لا ينفد للطاقة والإرادة والبهجة والانتصار .
لك أن تعترف بالعجز ، وأن تكف عن كتابة ما هو مكتوب ، أو إعادة قراءة ما هو مقروء ، لكنك تغالب رغبة جارفة في أن تخط سطورا ، قد تتضمن اعترافا سخيا ، بأنك من أبناء جيل استند إلى ظله الوارف ، كي يخرج من شقوق الأرض ، ويصير نبتا ، وأنك واحد من أبناء جيل استمد من شمسه ما اخضر في عوده ، من فكر وإيمان والتزام ، وإرادة صلبة للقتال ، ضد كل ما هو دميم ، وقبيح ، ومستورد ، وفاسد ، مما لا ينفع الناس في الأرض ، وأنك واحد من أبناء جيل ، تهجى حروفه الأولى وهو يشُبّ على أصابعه ، ليصافح صوته الواثق ، وإصراره الشاهق ، ومصريته الغالبة ، التي ظللت تشم فيها روائح الخبز الصباحي الدافئ .
لكنك أيضا ، واحد من أبناء جيل ، اعتصرته التجربة ، بجنوحها الصاعد والهابط ، وعلمته أن يفكر بوجدانه ، وأن يحب بعقله ، ولذلك بقدر ما أحب عبد الناصر ، بقدر ما واتته الشجاعة للتمرد عليه ، في محطات مشهودة ، وقد خرج عليه أحيانا متظاهرا ، وغاضبا ورافضا ، لكنه لم يخرج منه ، بل ربما كان الخروج عليه بالمعنى الحقيقي ، أقرب الطرق وصولا إلى جوهره الآسر .
ولذلك أيضا كان تقديري الشخصي ، ملحّا ، ومبكّرا ، بضرورة إخضاع التجربة كلها ، إلى أوسع قراءة نقدية ممكنة ، لفصل ذهبها عن زبدها ، وماسها عن زجاجها ، إذا أردنا تحصينها ، ليس من أعدائها وخصومها وحدهم ، وإنما من بعض أنصارها ، ودعاتها ، والذين حولوها تارة إلى مادة للانقسام ، والتنابذ ، وحولوها تارة إلى لافتة للتربّح والحضور ، ثم إذا أردنا قبل ذلك ، وفوق ذلك ، تحصينها من تسلط بيروقراطية فكرية قديمة ، أو من نزوع إلى سلفية سياسية جديدة ، وللأسف فقد تقدمت الأولى واستقوت الثانية .
لقد كتبت منذ البداية ، باحثا عن مسحة لونية طازجة وفارقة ، في صورته ، وربما استطيع أن أوثق هذه المسحة اللونية ، أو العلامة الفارقة ، بالقول بصراحة شديدة ، وتحديد أدق ، أن جمال عبد الناصر لم يكن واقعيا .
نعم ، ولو كان عبد الناصر واقعيا ، ما كان لفكره وأهدافه ومبادئه ، أن تشق طريقها بين الصخور ، وفي حقول الألغام ، وأن تتنفس حية ، في المحيط والفضاء الواسع .
لو كان عبد الناصر واقعيا ، غداة حرب السويس ، لنظر إلى موازين القوى العسكرية ، في صيغها المباشرة وحدها ، وانتهى به الأمر ، إلى أن يستمع إلى نصيحة صلاح سالم ، النموذج المدرسي للواقعي ، وأن يذهب ليسلم نفسه لسفارة الإمبراطورية البريطانية في القاهرة ، بعد أن تلقى الانذار الثلاثي .
ولو كان عبد الناصر واقعيا ، ونظر إلى موازين القوى الداخلية ، بعد الثورة مباشرة ، لما كان له أبدا أن يتحرك بعد شهور قليلة ، ويعلن انحيازه السافر للبؤس الريفي ، ويفرض قانون الإصلاح الزراعي .
ولو كان عبد الناصر واقعيا ، قبيل قرارات التأميم ، ونظر إلى موازين القوى الاقتصادية ، وشبكات المصالح الأجنبية الكبرى ، باصولها ونفوذها ، وشبكاتها الداخلية ، ما اندفع للحظة واحدة ، نحو توقيع القرار ، أو إصداره حتى بعد توقيعه .
إن ذلك لا يعني ، أن عبد الناصر كان مغامرا ، أو متهورّا ، أو ساعيا إلى تحقيق فرصة دون وعي يقظ ، ودراسة متعمقة ، لأنه كان – أولا – يتمتع بحس إيماني عميق ، يكاد أن يكون صوفيا ، بأنه يسير بخطوات متسقة مع الاتجاه الصاعد في التاريخ الإنساني ، وأن كل أعداء مصر وخصومها ، يسيرون بخطوات متسقة مع الاتجاه الهابط في التاريخ ، وهذا الإدراك في ذاته ، هو أحد علامات عبقريته ، التي أضاءتها ثقافة واسعة بلا ضفاف .
ولأنه كان – ثانيا – يعرف بعمق حتى من داخل متون علومه العسكرية ، أن التكتيك ينبغي أن يكون متجانسا تماما مع الاستراتيجية ، وألا يكون متناقضا معها ، أو أن يحل محلها ، وأن الاستراتيجية بدورها ، لا يجوز أن تحل مكان التكتيك ، أو أن يصير الخلط بينهما ، قابلا للحدوث في حقل التطبيق العملي ، وهو لهذا لم يجزأ معاركه ، ولم يتخلف عن توقيتها ، ولم يخلط بين مراحلها ، ولم يبدِ وجهين مختلفين في أي مرحلة أو نقيضها .
ولأنه كان – ثالثا – يدرك بعمق ونفاذ أن المبادئ والنظريات والاستراتيجيات ، تظل خاوية ، وعاجزة ، وفقيرة ، إذا لم تستولي على أوسع الجماهير ، وأن هذه المبادئ والنظريات والاستراتيجيات ، تصبح قوة لا تقاوم ، وطاقة لا تنضب ، وإرادة لا تنكسر ، عندما تمنحها الجماهير ، الطاقة والقوة والإرادة ، وبالتالي فإن القواعد الشعبية ، هي السلاح الأقوى والأبقى ، والأكثر قدرة على المنازلة ، في كل معركة ، وعلى تحويل معادلات الضعف ، إلى معادلات قوة ، وعلى العكس من ذلك ، فإن الانفصال عن الجماهير ، مجبول على أن يحوّل معادلات القوة ، إلى معادلات ضعف ، بل واستضعاف .
والحقيقة أيضا ، فإن هذه السمة البالغة الخصوصية ، أي ( اللاواقعي ) لم تكن وقفا على عبد الناصر وحده ، بغض النظر عن الدرجة والنوع ، فقد ظلت عبر مراحل التاريخ الوطني ، بل والإنساني ، هي أبرز السمات عند كافة القادة والزعماء ، الذين استطاعوا ، أن ينحتوا بحضورهم ، مسارات جديدة لنهر التاريخ ، وبمقدروك أن ترى بعض تجليات اللاواقعي واضحة ، عند ” محمد فريد ” وأن تراها مكتملة عند ” أحمد عرابي ” ومشعة في مراحل بعينها ، عند ” سعد زغلول ” و ” مصطفى النحاس ” و ” مكرم عبيد ” ولكنك ستجد شخصية ” الواقعي ” بكل تخومها وظلالها ، عند ” الخديوي توفيق ” أو عند ” عدلي يكن ” أو ” محمد محمود ” كما يمكنك أن ترى الصورتين المتقابلتين للواقعي واللاواقعي بالترتيب ، بين الجنرال ” بيتان ” والجنرال ” ديجول ” ، لقد كان بيتان جنرالا فرنسيا وطنيا دون شك ، ولكنه كان واقعيا ، ولذلك غداة احتلال النازي لباريس ، قرر أن الاستسلام أصبح قدرا لا فكاك منه ، وباسم الحفاظ على ما تبقى من الميراث الفرنسي أنحنى ، واستسلم للنازية ، أما ” ديجول ” اللاواقعي ، فتجاهل كل موازين القوى ، وخاض معركته بقليل من الزاد والسلاح ، وبكثير من الخيال والإرادة ، وهكذا انتصر .
(الواقعيون) يحازون شروط الواقع ، ويسيرون فوق خطوطه وعلى هديه ، ويؤمنون بأن طلب السلامة أولا ، يقتضي الإنحناء ، أما (اللاواقعيون) ، فيدركون أن هناك زادا جديدا ، ومسارا صاعدا ، يحفرون له بأظافرهم ، مجرى جديدا .
لذلك سيبقى عبد الناصر اللاواقعي ، قنطرة عظمى فارقة ، على مجرى التاريخ الوطني ، والإنساني ، تعطي من أراد طاقة معنوية بلا حدود ، وقواعد مختبرة للتفكير بلا قيود .